دقائق وترفع المآذن صلاة المغرب.. تلك اللحظة التى ينتظرونها بلهفة ل«يرمّوا» عظامهم ويروون ظمأهم، يرفع مؤذن مسجد عمر مكرم «الله أكبر الله أكبر»، فيخرج «أشرف السويسى» من خيمته، التى هى بمثابة مطبخ للمعتصمين والباعة الجائلين وأصحاب المطالب. يحمل بين يديه «حلة أكل» من صنع يدى «ياسر الإسكندرانى» الذى يُطلقون عليه «الشيف». يجلسون ثم ينادون على المارين وجيرانهم فى الخيم المنصوبة فى الميدان أمام مجمع التحرير. يرددون دعاء الإفطار الخاص بهم: «من محبى مصر إلى الرئيس القادم.. نعلم أن الثورة قامت من أجل القضاء على الفساد، لكننا نريد رئيساً يستقر فيه حب الله ويستقر عليه حب الناس ويعيد لمصر مجدها الأول وينقلنا من زمن الكذب والتزييف لزمن الصدق والأمانة.. اللهم تقبل دعاءنا». رغم أن كلاً منهم ينتمى إلى «محافظة شكل» فإن ميدان التحرير جمعهم على تلك المائدة البسيطة بجوار خيمهم، يشربون قليلاً من «العرقسوس» الذى حضّره خصيصاً «محمد البورسعيدى»، يروون ظمأهم ثم يترقبون لحظة إزالة غطاء «الحلة». يستنشقون بخارها فيُطهرون قلوبهم. يقبض «السويسى» على «الكبشة» ويغرف فى الأطباق الصغيرة طعامهم: فول مُضاف إليه قطع الطماطم، رغيف عيش لكل صائم يفتتونه لُقيمات حتى يستبد بهم الشبع، ولا يخلو إفطارهم من نكتة ساخرة عن الوضع السياسى: «الواحد مش متعود على اسم الرئيس الجديد.. كل شوية أنسى وأقول محمد مرسى مبارك». تتعالى الضحكات ويمتعض وجه «السويسى» لأن «الفول أبوطماطم مش عليه ملح» موجهاً خطابه ل«الشيف»: «بقى ده كلام برضه يا طباخنا». يجلس «عصام» -فى الأربعينات من عمره- فى أحد أركان المائدة المستديرة، يتقاسم حصته مع ولديه الصغيرين يوسف ومصطفى. يحاول إلقاء المسئولية على كاهليهما مُبكراً. يغمس لقمة فى الصحن الصغير ويتناولها سريعاً حتى يستطيع العودة إلى «نصبة الشاى» التى يعتبرها الأولى فى الميدان: «أنا هنا من يوم 30 يناير 2011.. دى أول كافيتريا فى الميدان». ومن هذه النصبة تجرع محمد مرسى رئيس الجمهورية كوباً من الشاى عندما كان مواطناً عادياً مُعتصماً عن حزب الحرية والعدالة. يملأ الوجوم وجهى الطفلين الصغيرين. يوسف الذى كاد يلتحق ب«كى جى تو» يفتقد محافظة البحيرة التى ولد فيها هو وشقيقه مصطفى الذى يكبره بستة أعوام. يؤكد مصطفى: «أنا هنا لأن فيه ناس كتير ماتت بسبب البلطجية والناس الوحشة، وانا قاعد هنا عشان أرجّع حقهم». البشاشة تملأ وجهه قبل أن يُجيب: «الحمد لله نجحت وجبت فى كل المواد امتياز». فيقطع الأب حديثهما: «الفطار فى التحرير أحسن من شبرد وشيراتون.. يا حلاوة الفول يا حلاوة». «عامل زى بواب العمارة»: هكذا يصف ياسر الإسكندرانى الدكتور محمد مرسى بعد افتقاده صلاحيات رئيس الجمهورية: «هوّ بيقضى طلبات الشعب لكن لما بيجيله أمر مبيقدرش يتكلم».. مستمتعاً بالإفطار: «رمضان فى الميدان بيختلف كتير.. مفيش حريم وسطنا والراجل هوّ اللى بيطبخ». يتدخل «السويسى»: «احنا مستقلين.. لا نتبع أى فصيل سياسى.. ومش عاوزين نتفرج على مسرحية من سيناريو وحوار الإخوان وتأليف المجلس العسكرى». «حلة» الفول بالطماطم يشترك فيها أكثر من 8 أفراد لإنجازها. يُضيف أشرف السويسى: «كانوا بيقولوا فيه موائد فى التحرير.. وزى ما انت شايف مفيش حاجة.. ورافضين أى شىء من هذا القبيل لأن أى فصيل سياسى هيعمل مائدة هيطلب من الصايمين إنهم يسيروا على خطاه واحنا مستقلين». يرد محمد البورسعيدى الذى يطلق على نفسه «عاطل بالفطرة»: «القذافى قال من تحزب خان.. واحنا مش تابعين لأى حزب». يُنهى الجميع إفطارهم الذى تخللته السياسة ويفتح كل منهم علبة سجائره الكليوباترا وينفثون دخانها بعيداً عن أعين الناظرين. يتذكر كل واحد أسرته وزوجته: «يا ترى عاملين إيه دلوقتى؟!».