ثلاثة أصوات لم يكونوا يوماً فى حالة اصطفاف بأى درجة فى صف جماعة الإخوان وحلفائهم، وتقديرى أنه ينبغى الاستماع إليهم دون استسلام لمنطق «القبيلة». وأبدأ باستقالة البرادعى من منصبه كنائب مؤقت لرئيس الجمهورية، فهى لدعاة «شنق آخر إخوانى بأمعاء آخر متحالف مع الإخوان»، خيانة لا تقبل النقاش، وعمالة لا شبهة فيها لكل أعداء الوطن، وهو خطاب «تكفيرى وطنى» ينتشر كالوباء، وكم من الجرائم ترتكب باسمك أيتها الوطنية! وهى فى تقديرى، موقف يستحق التأمل -حتى بالنسبة لمن لا يرونها موقفاً يستحق التقدير- فالنخبة التى توجه كل هذا القصف الفاقد للبصيرة على رجل لديه تقدير مختلف فى موضوع شديد الحساسية هو سفك الدماء مؤشر على حالة تنذر بالخطر. وهذا الحس الأخلاقى اليقظ لدى البرادعى وأمثاله، أصبح فى الحقيقة عبئاً على أصحابه، فى مناخ أصبح لا يريد سوى مقاتلين مستعدين للقتل الحقيقى والمجازى، والتبريرات فى الحقيقة متشابهة بين الإخوان وخصومهم. ولعل ما يستوقف بشدة فى موقف البرادعى ما نقله عنه أحد خصومه من أنه يخشى من أن يؤدى المسار الحالى إلى خلق «ديكتاتور جديد»، وما يجب أن أؤكده هنا أن الاستبداد -سواء كان دينياً أو وطنياً- لا تجوز المفاضلة بينهما، وما يحذر منه البرادعى خطر لا تنفيه الشواهد، وهو فى تقديرى يساوى بالضبط خطر وصول الدكتور أيمن الظواهرى زعيم تنظيم القاعدة إلى منصب رئيس الدولة المصرية، ولا يمكن أبداً أن يكون طوق النجاة أن نستجير من الرمضاء بالنار! ورغم أننى ممن وقعوا على «استمارة تمرد» وفى الوقت نفسه لست ممن فوضوا «السيسى»، فإننى ألمح فى المشهد السياسى والإعلامى حالة سعار يتصرف بناء عليها كثيرون مع كل من يدعو إلى احترام «حدود التفويض»، والمفارقة هنا أن النسبة الأكبر من هؤلاء كانوا يرددون كلمة محمد حسنين هيكل الشهيرة عن «حدود التفويض» الذى امتلكه الرئيس المعزول محمد مرسى لتأكيد أنه ليس «على بياض»، وها هم الآن يدافعون عن أن التفويض لحركة «تمرد» أولاً ثم للفريق أول عبدالفتاح السيسى ثانياً هو: «على بياض». أما ما حدث للأكاديمى السياسى المعروف الدكتور عمرو حمزاوى -وصولاً إلى الغياب الإعلامى شبه التام- فدليل يبعث على الرعب على الطبيعة «الحديدية» التى يتسم بها القسم الأكبر من الإعلام المصرى، فهناك فى لحظات معينة مايسترو يقود، ولحن بعينه لا يخرج العازفون عنه، وهذه الظاهرة - بعيداً عن شعارات المهنية وحرية الرأى- تجعلك تشعر أنك أمام إعلام يديره شبح عليه بصمات «اللجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفيتى»! أما الدكتور مصطفى النجار فواحد من رموز ثورة الخامس والعشرين من يناير وخصومته مع جماعة الإخوان يعرفها كل من له معرفة كافية بالشأن العام، لكنه أخطأ خطأ لا يغتفر فى نظر المدافعين عن «عقيدة الخلاص بالدم»، وهى عقيدة جديدة/قديمة اكتسحت شرائح واسعة من النخبة المصرية، وهى شرائح أصبحت ترى أن سفك الدم وحده هو الضمان المؤكد لمستقبل أفضل! ولله الأمر من قبل ومن بعد. وفى الحقيقة فإن ما حدث فى فض اعتصامى ميدانى النهضة ورابعة العدوية كان نوعاً من علاج الخطأ ب«الخطيئة»، وهو فضلاً عن ذلك كشف عن مشكلة حقيقية فى أداء وزارة الداخلية مؤداه أن عقارب الساعة تعود إلى الوراء إلى ما قبل الخامس والعشرين من يناير، وأن مشاعر الانتقام لدى بعض المنتسبين للداخلية انفلتت من عقالها، وأن غض الطرف عنها يبدو أنه سيعود كما كان فى عهد مبارك «موقفاً مبدئياً رسمياً». وهو موقف أصبح له ظهير شديد الحماس فى قلب مجتمعى السياسة والإعلام. ومصطفى النجار أخطأ لأنه رفض منطق التعتيم المدهش على «الجانب المظلم من الصورة»، فالإعلام -كله تقريباً- يتحدث عن المعركة ضد الإخوان وحلفائهم كما لو كانت ملائكة يخوضون معركة مقدسة ضد شياطين، لا عن دماء مئات القتلى وآلاف الجرحى كنا نستطيع تحقيق الأهداف نفسها دون سفكها، وعندما يسود هذا المنطق -تحت شعارات الدفاع عن الأمن القومى- سيتحول جهاز الأمن إلى وحش قد لا يستطيع أحد كبح جماحه لسنوات قادمة. والأمم تذهب فى طريق المجهول عندما تضيق ذرعاً بالاعتبارات الأخلاقية والإنسانية وتنظر بريبة إلى كل من يحاول لجم الاندفاع المجافى للضمير نحو كل ما يتصور طرف يملك السلطة -سلطة القوة والكلمة معاً- أن ما يفعله دفاع عن «المصلحة العليا للوطن»، وعندما رفع الثوار فى الثورة الفرنسية هذا الشعار دون ضوابط واضحة لمعنى هذه المصلحة وما يجوز وما لا يجوز فعله دفاعاً عنها، سالت الدماء أنهاراً فيما عرف -حتى فى الأدبيات الغربية- ب«حكم الإرهاب»، والإرهاب لا تجوز مواجهته بالإرهاب! لقد دفعت اليابان، مثلاً، ثمناً باهظاً جداً لحالة الإضعاف الممنهج لدعاة السلام خلال الفترة التى سبقت الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى مأساة هيروشيما ونجازاكى، وأدرك اليابانيون متأخراً أنهم كان يجب أن يستمعوا لأصوات من كانوا يعتبرون «عملاء» و«خونة» و«طابوراً خامساً» بالضبط كما يتحدث كثيرون عن الدكاترة محمد البرادعى وعمرو حمزاوى ومصطفى النجار.