هل كان عضو الكونجرس الأمريكى جون ماكين سيتجرأ ويدلى بتصريحات صلفة وحمقاء فى القاهرة وصلت إلى حد التلويح بمنع المعونة الأمريكية وقطع العلاقات، لو لم تكن الحكومة المصرية تحصل على معونة ضخمة نسبيا من الإدارة الأمريكية وتحرص على استمرار هذه المعونة؟ لا أظن على الإطلاق. والأنكى أن قرائن مقنعة تتوافر على أن هذا الموقف المذموم جاء لدعم جماعة الإخوان الضالين وبطلب منها وسابق تدبير من التنظيم الدولى للإخوان. بل إن هناك قرائن على أن الرجل انغمس فى تصرفات تشين أى ضيف أجنبى فى بلد محترم، ناهيك عن أن يكون ممثلا لهيئة نيابية فى الولاياتالمتحدة، بتورطه فى نصح جماعة الإخوان الضالين بأساليب عرقلة خطة التحول الديمقراطى الراهنة. إن مثل هذه الأفعال تتعدى مجال خرق الأعراف الدبلوماسية إلى نطاق التجريم ويتعين أن تفضى إلى اعتبار هذا المأفون شخصية غير مرغوب فيها فى مصر. ولكن رب ضارة نافعة، فقد تتيح حماقة ماكين فرصة نادرة للتحرر من إدمان المعونة الأمريكية بسبب رد الفعل الشعبى والرسمى الكاسح الرافض لموقفه العدائى، إن من يموِّل جهة ما، خاصة فى غير موطنه، غالبا ما يتوخى مصلحة خاصة له أو لبلده. وبناء عليه، فإن تلقى التمويل ينطوى دائما على شبهة تبعية المتلقى للمانح، والمثل السارى هنا يقول: «إذا وضعت يدك فى جيب شخص آخر وتحرّك، فلا بد أن تتحرك معه، إن أردت أن تبقى يدك فى جيبه». والدلالة واضحة: من يتلقى التمويل ويحرص على استمراره، لا بد أن يتبع المانح فى حركته مما ينطوى على فقدان استقلال القرار، ومن خطايا الحكم التسلطى الفاسد والمستبد الذى قامت ثورة شعب مصر العظيمة لإسقاطه فى مطالع 2011 أنه أسّس لذهنية وممارسات الاستجداء من الخارج، فى سياق نمط من الرأسمالية التجارية والاحتكارية المنفلتة، بدلا من بناء نمط للتنمية المنتجة والمستقلة وتأسيس قيم الاجتهاد، فاستشرى فى جميع جنبات المجتمع داء الاعتماد على التمويل الخارجى وصولا لعائلة الطاغية المخلوع.. إن أى دولة لا يمكنها صيانة استقلالها الوطنى ما بقيت مدمنة لتلقى المعونات التى يمنحها آخرون. ومعروف أن مصر ظلت تتلقى معونة كبيرة من الولاياتالمتحدة لأغراض مدنية وعسكرية منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد للتصالح مع إسرائيل. وبمرور الزمن تناقص الشق الاقتصادى فى المعونة الأمريكية لمصر حتى أصبحت المعونة العسكرية هى الغالبة. فى حالة مصر، تصل المعونة العسكرية إلى 1,3 مليار دولار سنوياً. ويلاحظ أنه بينما حافظت المعونة العسكرية على مستواها خلال العقد الماضى، انخفضت المساعدات الاقتصادية من نحو 700 مليون دولار عام 1990 إلى 250 مليون دولار عام 2010، وبذلك انخفضت المعونة الاقتصادية إلى أقل من خمس المعونة العسكرية. وتدل هذه البيانات على أن المانح والممنوح كليهما كان يولى أهمية أكبر للمعونات العسكرية بالمقارنة بالمساعدات الاقتصادية، وبالإضافة لذلك، تبين مصادر الإدارة الأمريكية أنه قد خُصِّص فى ذلك العام مبلغ 1.9 مليون دولار للتدريب الهادف «لتقوية التعاون العسكرى المصرى الأمريكى فى الأجل الطويل» وهذا المبلغ المخصص من موارد الإدارة الأمريكية هو على الأغلب ما يستعمل لتمويل اللقاءات الدورية بين القادة العسكريين من البلدين.. ولا ريب أن للمعونة العسكرية فوائد تتمثل فى توريد المعدات وقطع الغيار والذخائر من الولاياتالمتحدة مجانا، بشرط الشراء من الولاياتالمتحدة بالطبع، ما يستلزم الدخول فى علاقات بين النخب العسكرية فى البلدين، ولكنها لا تخلو من مضار. فالاعتماد على الولاياتالمتحدة كمصدر وحيد طويل الأجل للمعدات وقطع الغيار والمعرفة اللازمة لاستخدامها بكفاءة ينشئ حالة من التبعية غير المرغوبة لمن يريد الحفاظ على استقلاله الوطنى، خصوصا أن الولاياتالمتحدة تتبنى مشروعا إمبراطوريا له مصالح ضخمة فى المنطقة العربية ويدعم المشروع الصهيونى فى الوحدة سبيلا للعزة والكرامة. ويجب ألا ننسى أن أسلحة الولاياتالمتحدة كتاب مفتوح للعدو الاستراتيجى لمصر إسرائيل، وفى حدود اتفاقية كامب ديفيد تنشأ قيود أخرى على استعمال السلاح المورد من الولاياتالمتحدة. إن الإجماع الذى يكاد يكون تاما فى دوائر المصريين كافة يقضى بأن عزة مصر وكرامة أبنائها لا تستقيم مع الاعتماد، الذى يراد له من قبل الأمريكان ومريديهم أن يظهر وكأنه لا فاصم له، على المعونة الأمريكية، والذى أضحى بسبب عنت الإدارة الأمريكية لصيقا باجتراح جرعات متزايدة من المهانة عبر الاصطفاف المطلوب من متلقى المعونة خلف مانحيهم على الصعيدين الإقليمى والدولى. بل يصل إلى حد قبول ربط المعونة بالتدخل السافر فى الشئون الداخلية لمتلقى المعونة. ولذلك يتردد التهديد بقطعها أو حجبها لفترة أو تقليلها حتى ينصاع من تسول له نفسه أن يتصور أن باستطاعة من يدمن الاعتماد على المعونة أن يقدم على ما يرضى المانح ليلقى للمدمن بالجرعة التالية التى لا يصح لها من أثر إلا تكريس إدمان الداء.. ما ندعو إليه هو وضع استراتيجية ذكية لتنويع مصادر سلاح جيش مصر بإعادة العلاقات العسكرية مع الاتحاد الروسى، وغيره من مصادر السلاح فى الشرق مثل الصين والهند كموردين لسلاح القوات المسلحة المصرية، ونقدر أن هذه المصادر سترحب وربما ستقدم شروطا تفضيلية بسبب موقع مصر الاستراتيجى ورغبة هذه القوى الكبرى فى تعزيز مكانتها فى مواجهة الولاياتالمتحدة. ولكى يكتمل سعى مصر الثورة لتعزيز الاستقلال الوطنى، أقترح أن يُطرح الموقف من اتفاقية كامب ديفيد، إلغاءً أو تعديلا، على الاستفتاء الشعبى، ربما فى اليوم نفسه لعملية انتخاب الرئيس القادم، وليس فى هذا أى افتئات على التعهدات الدولية لمصر. فقواعد القانون الدولى تتيح مراجعة الاتفاقيات الدولية بعد مرور فترة على إبرامها. غير أن المبرر الأهم لمراجعة الاتفاقية أو إلغائها كلية، فى الوقت المناسب لمصر، هو أنها لم تكن اتفاقية منصفة فى الأساس بل وضعت شروطا مجحفة انتقصت من سيادة مصر على أراضيها، خاصة سيناء.