المعونة الأمريكية لمصر تعد بمثابة مبلغ ثابت سنويًا تتلقاه "القاهرة" من "واشنطن"، بعد توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، حيث أعلن الرئيس الأمريكي وقتها "جيمي كارتر" تقديم معونة اقتصادية وأخرى عسكرية سنوية لكل من "مصر وإسرائيل"، لكن مبلغ المعونة المقدر بنحو 2.1 مليار دولار تحول منذ عام 1982 إلى منحة لا ترد، 815 مليون دولار معونة اقتصادية، و1.3 مليار دولار معونة عسكرية، ورغم أن مبلغ المعونة بعد أن تم تخفيضه أصبح 1.8 مليار دولار، ولا يتجاوز 2% من إجمالي الدخل القومي المصري، إلا أنها لعبت دورًا خطيرًا في السياسة الداخلية للبلاد على مدار أكثر من ثلاثين عامًا، ساهمت فيها تلك المعونة في زيادة العجز التجاري ، وجعلت القرار السياسي المصري مرهونًا بمصالح واشنطن وإسرائيل. وبنظرة تاريخية، يظن البعض أن المعونة الأمريكية مرتبطة باتفاقية "كامب ديفيد"، وهذا ليس حقيقيًا، حيث بدأت المعونة قبل أكثر من عشرين عامًا على توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وقد بدأت على هيئة توريد شحنات قمح أمريكي، وكان ذلك بداية عام 1953 من القرن الماضي، وهي السنة التي تلت انقلاب يوليو، حيث قدمت أمريكا شحنات القمح بدوافع إنسانية في ظاهرها واستدراج عبد الناصر في باطنها، ولم يكد يحل عام 56 19حتى بلغت كميات المعونة نحو 19 مليون دولار، وفي هذا العام جمدت الولاياتالمتحدة مساعداتها الاقتصادية لمصر عقابًا على قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس الذي جاء كرد فعل لقيام الولاياتالمتحدة بسحب عرضها لتمويل السد العالي، ثم بدأت العلاقات المصرية الأمريكية تتحسن بعد عامين من حرب السويس، حيث رأى الرئيس الأمريكي "أيزنهاور" أن الفرصة جيدة لإعادة وصل ما انقطع مع النظام المصري، ووقع ثلاث اتفاقيات تحت مظلة القانون 480 بقيمة 164 مليون دولار، وفي فبراير عام 1962 طلب عبد الناصر مساعدة أمريكا في تنفيذ خطة التنمية الاقتصادية واستجاب الرئيس "جون كيندي" وأرسل إلى مصر وفدًا برئاسة الاقتصادي البارز "إدوارد ماسون"، الذي أوصى باستمرار المساعدات تفاديًا لزيادة الاعتماد المصري على الاتحاد السوفيتي، وكذا زيادة التوجه نحو الكتلة الشرقية، وبناء على توصية "ماسون" قرر "كيندي" تقديم مساعدات لمصر بقيمة 390 مليون دولار رغم معارضة الكونجرس الأمريكي، لكن المعونة توقفت مرة أخرى؛ عقابًا لمصر بسبب قرار عبد الناصر إرسال قوات مصرية إلى اليمن لدعم الثورة اليمنية التي أطاحت بالنظام الملكي الموالي للمملكة العربية السعودية، إذ اعتبرت الولاياتالمتحدة تدخل مصر في اليمن ضغطًا على السعودية الحليف الإستراتيجي لها بالمنطقة. سوق مستهلك د. صلاح جودة، مدير مركز الدراسات الاقتصادية قال: إن مصر تحولت إلى أكبر سوق مستهلك للمنتجات الأمريكية بسبب المعونة، فمصر بلد النيل والأراضي الخصبة لا تملك الاكتفاء الذاتي من القمح، وهو ما اشترطته الإدارة الأمريكية على "القاهرة" نظير هذه المعونة التي كانت لعنة على مصر منذ أن حصلت عليها، موضحًا أن مصر تستورد القمح من أمريكا بقيمة 30 مليار دولار سنويًا وهو ما يساعد على انتعاش الاقتصاد الأمريكي، أي أن المعونة تبلغ نسبة 3.5% مما تشتري به مصر قمحًا من أمريكا، ولو كانت الحكومة المصرية تشتري القمح بالقيمة نفسها من أي دولة أخرى لحصلت على خصومات تضاعف قيمة المعونة الأمريكية، وتحررت من العبودية الاقتصادية والعسكرية التي تجبر البلاد على عدم تحقيق الاكتفاء الذاتي من زراعة القمح ومعظم الصناعات الغذائية، لافتًا إلى أن الأهداف الخفية من وراء المعونة تتمثل في دعم الجيش المصري بالأسلحة الدفاعية فقط، وليس الهجومية لضمان تفوق الجيش الإسرائيلي، بالإضافة إلى استخدام مصر كسلاح رادع وقوة مضادة للدول المناوئة للمصالح الأمريكية في المنطقة، مثل "إيران". وأوضح د. حمدي عبد العظيم، مدير أكاديمية السادات للعلوم الإدارية الأسبق، أن المعونة الأمريكية لمصر أفادت الاقتصاد الأمريكي أكثر من نظيره المصري، فخلال الثلاثين عامًا الماضية حصلت القاهرة على أكثر من 40 مليار دولار معونة أمريكية، جعلت من مصر دولة تابعة تجاريًا للولايات المتحدة التي حققت فائضًا تجاريًا يقدر بنحو 45 مليار دولار، لآلاف الشركات الأمريكية سواء من خلال تصريف منتجاتها أو من خلال تنفيذ مشاريع استثمارية داخل البلاد، مشيرًا إلى أن الإدارة الأمريكية تشترط استيراد منتجات المعونة الاقتصادية والعسكرية على بواخر أمريكية وبتأمين لدى شركاتها، وللأسف معظمها سلع غير مناسبة للفقراء وغير ضرورية للمجتمع ولا تلبي احتياجاته الحقيقية، لكنها في النهاية تُلزم الحكومة المصرية بتحمل تكاليف صيانة السفن وقطع غيارها، فضلًا عن ذلك استخدمت المنحة كنافذة لبيع وترويج المنتجات والسلع الأمريكية حتى أصبحت مصر في ظل برنامج المعونة، المستورد رقم "26" من الولاياتالمتحدة. وكشف د. أحمد النجار، رئيس الوحدة الاقتصادية بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، أن طبيعة المساعدات والمنح التي تقدمها الدول لبعضها تتوقف على طبيعة العلاقة بين تلك الدول، وعلى الشروط التي تفرضها الدول المانحة، وهذا ما ينطبق تمامًا في العلاقة بين مصر وأمريكا من ناحية "المعونة"، وحينما ننظر للمعونة التي تقدمها الولاياتالمتحدة نجد أن عقيدتها تفرض التبعية للسياسات التي تقرها أمريكا، لافتًا إلى أن المساعدات التي تأخذها "القاهرة" من "واشنطن" مجحفة ومهينة للبلاد، وتم تفصيل قوانينها لخدمة المصالح والاقتصاد الأمريكي فقط، كما تعد المعونة الاقتصادية بمثابة نافذة لبيع وترويج المنتجات والسلع الأمريكية، حيث تنص شروط المعونة على أن السلع الممولة من هذه المنحة تعفي من الضرائب أو الرسوم الجمركية، وفيما يخض المعونة العسكرية تشترط "واشنطن" استقدام خبراء أمريكيين لتركيب المعدات والتدريب على استخدامها، بالإضافة إلى أنها تفرض على القوات المسلحة وضع وتحديد مرتبات هؤلاء الخبراء ومدة التدريب، مشددًا على ضرورة إيجاد بعض البدائل للاستغناء عن المعونة مثل طرح الحكومة سندات أو أذونات خزانة، والقضاء على الفساد المالي، والعمل على ضخ أموال المصريين المقيمين في الخارج، خاصة وأن مصر تواجه تحديًا صعبًا تحتاج فيه إلى رفع نسبة الادخار إلى 28% لتحقيق التنمية الاقتصادية. جواسيس أمريكا وفي رأي د. أسامة عبد الخالق، المستشار الاقتصادي بجامعة الدول العربية، أن واشنطن تستفيد من خلال معونة التدريب من زرع آلاف الخبراء والجواسيس الأمريكيين في كل الجهات الحكومية والخاصة والأهلية المصرية ويحصلون على أكثر من ثلث المعونة، ويخدمون المصالح الأمريكية بشتى الطرق، ومنها الحصول على معلومات غاية في الخطورة والسرية ونقلها إلى الإدارة الأمريكية، تحت ستار "المعونة الأمريكية"، مضيفًا أن المعونة ساهمت في إنشاء جسر ساخن لنقل المعلومات السرية والخطيرة والحساسة عن كل مفاصل المجتمع المصري، مدللًا على ذلك بمعونة "الصحة والسكان" التي مكنت الأمريكيين من الحصول على معلومات غاية في الدقة والخطورة عن جميع المصريين "أسر وأفراد" من خلال بيانات التعداد، وكذلك بيانات الخصخصة التي ساعدت الشركات الأمريكية على شراء العديد من شركات القطاع العام المملوكة للشعب بأبخس الأسعار، بالإضافة إلى أنها كانت السبب الرئيس وراء تبعية الرئيس السابق "حسني مبارك" للإدارة الأمريكية وفقدانه استقلالية القرار وتطويعه لصالح واشنطن، حتى لو تعارض مع مصالح البلاد، بجانب أجبار القاهرة على التوقيع على العديد من الاتفاقيات تحت تهديد قطع المعونة الأمريكية وكان أخطر هذه الاتفاقيات "الكويز"، التي كان الهدف منها فقط خلق سوق حرة للمنتجات الأمريكية والإسرائيلية بمصر والشرق الأوسط، الأمر الذي أدى إلى خروج الكثير من الشركات المصرية من المنافسة العالمية، وغلق مئات المصانع التي فشلت في منافسة المصانع الأمريكية والإسرائيلية والصينية؛ مما ترتب عليه تشريد آلاف العمال خاصة في مصانع النسيج والإكسسوارات. ويرى د. عبد الخالف فاروق الخبير الاقتصادي، أن المعونة الأمريكية جاءت نتيجة ضعف موقف المفاوض المصري قبل توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" عام 1979، واستخدمتها الولاياتالمتحدة كنوع من الإغراء لتوقيع الاتفاقية، ولذلك على "القاهرة" التخلي عن المعونة نهائيًا لضعف مبلغها الهزيل الذي وصل إلى 200 مليون دولار مقارنة بقيودها الكثيرة، لافتًا إلى أن مصر تستطيع الاستغناء عنها فورًا بحلول بديلة ومتاحة تحقق أرباحًا أضعاف المعونة عشرات المرات منها تطوير قناة السويس وتحويلها من مجرد مجرى ملاحي إلى منطقة خدمات كاملة، الأمر الذي يحقق إيرادات سنويًا يقدر بعشرات المليارات، بجانب إعادة تقييم أسعار المرور بقناة السويس بحيث يعامل الجانب الإسرائيلي والأمريكي بالسعر العالمي بدلًا من التخفيضات التي تقدمها القاهرة لهاتين الدولتين بسبب اتفاقية السلام والمعونة.