دعونا لا ندفن رؤوسنا فى الرمال ولا نتجاهل مجريات الأمور فى مصر اليوم. فبينما يتعرض حق المصريات والمصريين فى دولة مدنية ديمقراطية (دولة القانون ومواطنة الحقوق المتساوية والحريات العامة والشخصية) لأخطار متزايدة، تبدو أدوات وقدرات المدافعين عن الدولة المدنية، إن فى الحياة السياسية أو فى المجتمع، فى تراجع. تتوالى تصريحات بعض ممثلى الإسلام السياسى بالجمعية التأسيسية للدستور، ومن ورائهم قيادات الأحزاب التى يمثلونها، بشأن تغيير نص المادة الثانية فى دستور 1971 قبل إضافتها للدستور الجديد، وكذلك الحاجة لوضع إطار دستورى ينظم ممارسة الحريات العامة والشخصية. وتتحدث وسائل الإعلام عن مشاورات تدور بين أحزاب الإسلام السياسى وبعضها البعض للتوافق حول النصوص الدستورية قبل تمريرها بأغلبيتهم المضمونة بالتأسيسية. ونحن أنصار الدولة المدنية، أين نحن من هذه التطورات؟ العدد الأكبر منا انسحب من التأسيسية فى تشكيلها الأول والثانى لغياب التوازن وهيمنة الإسلاميين على المقاعد، وكأن الوطن أعطاهم ترخيصاً بكتابة الدستور الجديد بمفردهم. تمنينا بعد التشكيل الثانى أن يعاد النظر به كما حدث بعد أن أسقط القضاء الإدارى التشكيل الأول، إلا أن بعض المحسوبين على الدولة المدنية قبل الاستتباع فى التأسيسية واستمر فى عضويتها، وأخر القضاء الإدارى الحكم فى دعوى بطلانها إلى سبتمبر 2012 معطياً لها قبلة الحياة. والنتيجة هى أن الإسلاميين، الذين وعدوا قبل تشكيل التأسيسية بأن المادة الثانية لن تمس، تراجعوا عن وعودهم ويريد بعضهم تغيير النص بحذف كلمة مبادئ والإبقاء على عبارة «الشريعة هى المصدر الأساسى للتشريع». يأتى هذا التراجع بعد أن استقر فى ضمير المؤسسة الدينية الرسمية، الأزهر الشريف، وفى أعراف السلطة القضائية أن القيم والمقاصد الدينية يكفى للسهر عليها الإشارة فى الدستور إلى مبادئ الشريعة كالمصدر الأساسى للتشريع، وأن مصر لا تحتاج لإشارات أكثر عمومية قد تعيد إحياء جدل حُسم من قبل حول الأحكام والحدود. ومن شأن تغيير نص المادة الثانية إن أُقر أن يخلق بيئة دستورية مضطربة للغاية ويضع الكثير من القيود على اختيارات المصريات والمصريين وممارستهم لحرياتهم العامة والشخصية. ثم تأتى إشارات أعضاء بالتأسيسية حول ضرورة تنظيم ممارسة الحريات ووضع سياق شرعى لها، لتدلل على أن الوجهة هى وجهة تقييد وانتقاص من الحريات وأنها ستطال، إن تُرجمت إلى نصوص فى الدستور الجديد، المصريات والمصريين جميعا، بمسلميهم ومسيحييهم. وفى حين تتصاعد وتيرة الاعتداءات اللفظية والجسدية على النساء غير المحجبات (وفى بعض الأحيان على المحجبات غير المنتقبات) ويفقد شاب حياته بمدينة السويس بعد أن اعتدى عليه وهو مع خطيبته بعض المتشددين، يخرج علينا وزير الداخلية بتصريحات غريبة تبرر، بصورة غير مباشرة، لفعلة المعتدين على شاب السويس، وتقترح على المجتمع قبول رؤية المتشددين ونظرتهم المريضة للمرأة والقيود التى يرغبون فى فرضها على النساء والرجال وعلى حرياتهم الشخصية دون سند من الدستور والقانون (أو دون سند بعدُ من الدستور والقانون، فلا نعلم بماذا سيأتى لنا الدستور الجديد). ونحن، أين نحن من هذه الممالأة للنزوع المتشدد والمتطرف من قبَل الموظف العام الأول المسئول عن أمن المواطن؟ وأين نحن من خطر الانتقاص من الحريات فى حياة المجتمع اليومية وتفاعلاتها؟ نحن نكتفى بإصدار البيانات وعقد المؤاتمرات وإطلاق التصريحات، ولم يعد كل هذا بكافٍ بأى حال من الأحوال. علينا الانتفاض للدستور بتشكيل جمعية بديلة وفقاً لمعايير متوازنة ودفعها للعمل المنظم على إخراج مشروع دستور متكامل خلال الأسابيع القليلة القادمة. نريد للمصريات والمصريين أن يقارنوا حين تأتى اللحظة هذه بين دستور تأسيسية يهيمن عليها الإسلاميون ودستور جمعية متوازنة تمثل بها كافة الأطراف بما فيها الإسلام السياسى. فقط هذه المقارنة والبناء عليها إعلامياً وجماهيرياً هما أدواتنا الأساسية للعمل على إسقاط الدستور فى الاستفتاء الشعبى إن جاء صادماً. علينا الانتفاض للحريات العامة والشخصية بمطالبة القضاء بالإسراع بمحاسبة قتلة شاب السويس والمعتدين على النساء والمتحرشين جنسياً والضغط سياسياً وإعلامياً لاعتماد قوانين جديدة تشدد العقوبات المفروضة على مرتكبى هذه الجرائم. علينا الانتفاض بحركة إيجابية على الأرض وبقوافل توعية تجوب المحافظات لإيصال خطاب المواطنة والمساواة لمن لم يسمعنا من قبل، ومقاومة الرؤى المتشددة ضعيفة المنطق والحجة بالبيئات المجتمعية التى تنتشر بها.