لا شك أن الثورات العربية أحدثت تأثيراً كبيراً فى العقل العربى، لأنها جاءت من الجماهير ولم تأتِ من النخبة لكى تعبّر عن هموم الناس وعجز الأنظمة العربية عن تلبية طموحات شعوبها، وعلى غير المتوقّع جاءت هذه الثورات ليست تعبيراً عن أزمة اقتصادية فقط، وإنما أيضاً عن إرادة الشعوب فى تحقيق الكرامة وحياة سياسية تستجيب لحقوق الإنسان. والإسلام مع فكرة التغيير وضد فكرة ثبات الأوضاع الظالمة، لذلك أندهش أن البعض، بحجة الحفاظ على الاستقرار وبحجة ما يسميه بعض رجال الدين بالفتنة، يرفض الثورة على الحاكم، فذلك يخالف قول الرسول، صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»، فكلمة الحق هذه هى كلمة الشعب. وفقهاء السلطان هم الذين يفتون بأن الثورة على الحاكم الفاشل أو الظالم تفتح باب الفتنة لتبرير الأوضاع الظالمة، ولضمان بقاء الحاكم فى السلطة. ولا بد أن نؤكد أن مفهوم رجال الدين ليس موجوداً فى الإسلام، بل اخترعته السلطات لوضع شخصيات معينة تبرر استمرارها وبقاءها فى الحكم. من جهة أخرى، أؤيد من يقول إن أى تغيير تنتج منه أضرار، لكن هل بحجة الخوف من الأضرار لا أقوم بالتغيير ضد الفشل أو ضد الظلم؟ بالطبع لا.. فالإسلام من دون شك حينما جاء لإحداث عدالة اجتماعية أضر بمصلحة كثير من الناس. ففلسفياً يستحيل وجود فعل يشكّل من كل جوانبه مصالح خالصة فحسب، وهنا لا بد من استعداء ما نسميه ب«فقه الموازنات»، فأى فعل فيه مصلحة أو فيه ضرر، ونحن نقيس أيهما أكثر من الآخر، فما تغلب مصلحته على ضرره فهذا هو المطلوب فعله، والثورة تغلب الفائدة فيها على الضرر.. أو تلجأ إلى أخف الضررين. وقد حضّت السُنة من وجوه عدة على التغيير وحق الاعتراض أبرزها قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»، أيضاً المقولة الشهيرة لأحد الخلفاء الراشدين: «أطيعونى ما أطعت الله فيكم»، أى إذا لم أطع الله فيكم بتنفيذ العدالة الاجتماعية والسياسية، فلا تطيعونى، وسيدنا أبوبكر قال فى بداية توليه الخلافة: «وليت عليكم ولست بخيركم». ويكفى لكى تقوم الثورة أن يقوم الحاكم بتوزيع المناصب المهمة على حزبه أو تياره الدينى أو أبنائه وأقاربه والمقربين من دون نظر إلى الكفاءة. فتولية الأقارب والأنصار السياسيين تدل على عدم وجود عدالة، والإسلام كله قائم على فكرة العدالة الاجتماعية والسياسية، والديمقراطية قائمة على فكرة العدالة أيضاً. فالحاكم الذى يولى أقاربه وفصيله السياسى يخرج على أول قاعدة من قواعد العدل، وهى تكافؤ الفرص؛ لذلك قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «مَنْ ولى من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو لقرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين». وتولية الأنصار تحوّل الحكم إلى عصبية وقبلية من نوع جديد، ففى القديم كانت القبيلة هى أبناء الدم الواحد، والآن مفهوم القبيلة هى أبناء الجماعة الواحدة! والإسلام ضد القبلية من أى نوع. ولذلك ما انهار حكم عثمان بن عفان رضى الله عنه، إلا لأنه رفع أقاربه على سائر المسلمين، وسيدنا عثمان صحابى جليل وعظيم وله دور رائع فى الإسلام، لكنه لم يكن صائباً فى تولية أقاربه للولايات. وهذه صارت ظاهرة فى الحكم المعاصر، حيث تجد أن حكام الدول التى هبت فيها الثورات سعوا إلى توريث الحكم لأبنائهم أو زملائهم من الجماعة أو التيار. وهو ما يمثل خطأ كارثياً، يتعارض أولاً مع الإسلام، وثانياً يستفز الناس؛ وثالثاً يُسقط أى شرعية. لقد سئم المواطن العربى أن يكون أداة فى يد الحكام، سواء كانوا حزباً أو جماعة، وأراد المواطن العربى أن يتحوّل إلى غاية، أن يتحول إلى وسائل وأدوات لتحقيق حياة كريمة للشعوب. هذه الحركة الفكرية تكشف عن حدوث تحوّل فى جدل العبد والسيد. فقد صار المواطن هو السيد والحاكم هو العبد. المواطن هو الذى يختار، وهو الذى يقرّر، والحاكم هو الذى يستجيب وينفذ. هذا المنطق الجديد يضع الفكر العربى أمام ضرورة التغيير بحثاً عن الإنسان وعن التاريخ. كما أن حركة الفكر سوف تتغير كى تكون تعبيراً عن هموم الوطن وهموم الناس وستتخلى عن كونها تنظيراً وتأسيساً للسياسات المستبدة. وهذه الثورات تطرح تحدياً جديداً أمام الفكر السياسى العربى، حيث يتعين على المفكرين العرب أن يبحثوا عن نظرية سياسية جديدة تلبى تحديات إقامة الدولة وتحديات إقامة ديمقراطية تداولية وتشاركية تشاورية، وأعنى بذلك ألا تكون الديمقراطية تعبيراً عن حكم الأغلبية، وإنما فضاء يتيح المشاركة والتمثيل والفاعلية للجميع، بما فيهم الأقليات، حيث الشعب هو الذى يحكم من خلال تمثيل برلمانى يعبر عن كل أطيافه وليس فقط عن الأغلبية. ومن أكبر التحديات كذلك أمام المفكرين العرب إيجاد نظرية فى الدين يتحول فيها من نظام لاهوتى ينحصر فى الطقوس والشعائر والشكليات، إلى نظام أخلاقى حقيقى لا يكون الدين فيه ستاراً لتحقيق الأطماع السياسية، نظام يتوحّد فيه الأخلاقى مع الدينى، وتغيب فيه سلطة رجال الدين، وتسيطر عليه مفاهيم العقد الاجتماعى والتفكير العلمى ويعيش فيه الإنسان من أجل الإنسان.