كانت أقصى طموحات المريض فى أوروبا آنذاك أن يحظى بميتة كريمة، فلا طبيب سيعالجه، والمرض -فى الاعتقاد السائد حينها فى أوروبا- عقاب من الله لا يجوز لإنسان أن يصرفه، بل سيفعل ذلك الرب بنفسه.. إن أراد. فى الغالب سيكون على المريض بمرض خطير أن يلجأ للدير الذى سيعتنى به فيه الرهبان، آملين فى شفاء الله بالصلوات.. فقط الصلوات. كانت أوروبا فى هذا الوقت تدفع ثمناً باهظاً لحدثين جلبا عليها لعنة (الجهل) الطبى لفترة اقتربت من الخمسمائة عام، أولهما إغلاق الإمبراطور البيزنطى زينو لمدرسة إديسا للطب الأبقراطى، ثم إغلاق أكاديمية أثينا التى أسسها أفلاطون شخصياً على يد الإمبراطور جستينيان، ويتسبب التعصب الدينى (فى أوروبا) فى استبعاد التاريخ الحضارى اليونانى، بينما يتفاعل معه ويحتويه آخرون يعرفونهم فى هذا الوقت وحتى يومنا هذا باسم «المسلمون».. ومن هنا تبدأ قصتنا. (1) هذه هى أوامر الرسول «صلى الله عليه وسلم» واضحة بإقامة خيمة الآسية (الممرضة) العربية رفيدة الأسلمية، التى أمر الرسول «صلى الله عليه وسلم» أن تضرب فى المسجد؛ لتكون قريبة من الجيش؛ لأن رفيدة كانت لها معرفة بالجراحة والإسعافات الأولية. ولذلك حينما أصيب سعد بن معاذ فى المعركة، قال «صلى الله عليه وسلم»: «اجعلوه فى خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب». لكن أول مستشفى بالمعنى الحقيقى -ربما فى العالم أجمع- هى تلك التى أنشأها أحمد بن طولون فى القاهرة عام 872م، وكان مستشفى متطوراً يعالج فيه المرضى ويقدم لهم العلاج دون مقابل فى نظام أشبه بالتأمين الصحى الموجود حالياً، وتطور الأمر كثيراً مع مستشفى بغداد الذى أقيم عام 982م، والذى قدم مع ما تلاه من مستشفيات نماذج فى الإدارة الطبية، وكان يحتوى على هيئة طبية مكونة من 24 طبيباً، وأطلق عليه (بيماريستان)، وافتتحت فى ذات الوقت أول صيدلية إسلامية، وكان الصيادلة فى عهد الخليفة المأمون يحصلون على (إجازات) و(ترخيص بالعمل)، واستحدث الصيادلة المسلمون العديد من أنواع العلاج، مؤمنين بقول رسول الله «صلى الله عليه وسلم»: «ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء»، واحتوى كتاب (الجامع فى الأدوية المفردة) الذى ألفه ابن البيطار على أكثر من 1400 عقار مختلف منها 300 لم تستخدم من قبل قط، واستحدث المسلمون تخفيف الأدوية عن طريق إضافة السكر المطعم ببعض نكهات الفاكهة لتحسين مذاق الأدوية، ومع مرور الوقت، تحولت المستشفيات فى العالم الإسلامى فى القرنين التاسع والعاشر إلى كليات طب حقيقية يدرس فيها الطلاب كل ما له علاقة بعلوم الطب والصيدلة، وهنا.. هنا فقط يمكننا الحديث عن أهل السبق وأشهر (علماء) الطب فى العالم الإسلامى وسنجد فيما فعلوه عجباً، ويمكننا أن نبدأ هكذا.................!!! (2) بالطبع لن تصدق أن (الجراحة) كانت ممنوعة فى فترة من الفترات فى أوروبا لاعتبارات (كنسية) تتعلق بعدم وجوب العبث فى الجسم الإنسانى الذى هو (هبة الرب)، لكن هذا ما كان يحدث فعلاً، وفى الوقت ذاته كان هناك طبيب استثنائى فى العالم الإسلامى يضع اسمه فى كتب تاريخ الطب بعمل دؤوب يثبت أن كل ما وصل إليه العالم فى علومه الطبية حتى يومنا هذا يدينون فيه لأطباء مسلمين على رأسهم «الزهراوى» الذى عاش فى القرن العاشر فى إسبانيا، وقدم كتاباً خالداً هو «التصريف لمن عجز عن التأليف»، والذى ضمنه فصلاً كاملاً عن (الجراحة) قدم فيه ما يزيد عن المائتى أداة جراحية محولاً الطب من (التأمل) إلى (التجريب)، ومن مجرد الملاحظة إلى العمل الطبى الحقيقى، وكانت هذه المقالة هى أول مقالة فى تاريخ الطب تصف الأدوات الجراحية التى ما زالت تستخدم حتى يومنا هذا مع تعديلات طفيفة لترسى أسس الجراحة فى أوروبا بعد ترجمة كتاب «الزهراوى» الذى ابتكر آلات الجراحة وتفتيت الحصى فى الكلى وفى المرارة والأداة التى تسحب بها الجنين عند الولادة والتى تستخدم حتى يومنا هذا، ولم يكتف «الزهراوى» بذلك بل ابتكر الخيوط الجراحية، واستخدمها من مادة تصنع منها أوتار الآلات الموسيقية، وطور «الزهراوى» من الطب وتبحر فيه، فابتكر الأسنان البديلة، وتقويم الأسنان، وكان أول من استخدم القطن للسيطرة على النزيف، بل إنه أجرى جراحات وعمليات تجميلية للأثدية المتهدلة، إضافة للآلة الشهيرة التى يستأصل بها اللوزتين حتى يومنا هذا مؤكداً على وجوب حدوث علاقة طيبة بين الطبيب والمريض لكى يطمئن هذا الأخير، ولم يتوقف فضل «الزهراوى» على الطب فى الكون بأسره عند تلك المرحلة بل ساهم «الزهراوى» وباقى الجراحين المسلمين بالريادة فى طب النساء والتوليد مستخدماً أدوات ما زال معمولاً بها حتى يومنا هذا، ولم يكن د.أبوالقاسم الزهراوى، المعروف فى العالم كله وجميع المراجع الطبية المتخصصة باسم abulcasis هو الاستثناء فى العالم الإسلامى فى هذا المجال، بل كان هناك آخرون سنعرفهم بعد قليل. (3) ثلاثون عاماً من حياته قضاها أبوبكر الرازى فى دراسة الكيمياء القديمة والرياضيات والفلسفة والفيزياء والفلك، وبعدها كانت زيارته لمستشفى بغداد فى القرن العاشر الميلادى نقطة فارقة فى حياته إذا استشعر ببعد فلسفى شديد العذوبة أن الحاجة الملحة الحقيقية هى إنهاء المعاناة البشرية.. هكذا كتب مايكل جراهام عن ابن الرازى الذى عين مديراً لمستشفى بغداد والتزم بدراسة الطب، وعرف وقتها بأعظم طبيب فى العالم، ويدين له الكون بتفريقه بين الجدرى والحصبة، وفى كتابه (الطب الروحانى) أعطانا ما يمكن اعتباره أول وصف طبى لتأثيرات التسمم بالكحول!!، ومن بعده يصف علاجاً يصلح لعلاج إدمان هذه الحالات، كما عالج العديد من أمراض المعدة والرأس، وأوصى بحمية صحية (نظام غذائى صحى) مؤكداً على أهميتها أكثر من الأدوية فى بعض الحالات، كما اخترع طرقاً جديدة فى خياطة الجروح، وقد ألف الرازى أكثر من 200 كتاب أهمها وأشهرها فى العالم هو كتابه (الحاوى) الذى ترجم وكانت قراءته إلزامية فى مدارس الطب الأوروبية بعد ذلك بمئات السنين، وخلال القرن الرابع عشر امتلكت كلية باريس تسعة كتب فقط كان أحدها (الحاوى)، وحين طلب الملك لويس الحادى عشر استعارته عام 1371 أجبرته الكلية على دفع مبلغ تأمين ضخم على هذا الكتاب، وآمن الرازى بقوة الإيحاء، والتأثير النفسى فى العلاج، ويروى عنه أنه ذات مرة كان يعالج أميراً طريح الفراش، وضعه الرازى عارياً فى مغطس ماء، ثم وقف إلى جانبه وشتمه!!! وهكذا قام الأمير غاضباً مهدداً بقتله، قبل أن يدرك أنه تحسن!!!!! والآن هل انتهت القصة؟؟.. الواقع لا.. وتكملتها كما يلى: (4) هذا هو ابن سينا.. الشيخ الرئيس كما أُطلق عليه.. الرجل الذى قورن بجالينوس، الطبيب الإغريقى القديم، ومن يعرف بجالينوس المسلم، تنافست أمم عديدة للاحتفاء بذكراه السنوية، وكانت تركيا أول المبادرين، واحتفل به اليونيسكو عام 1980 بعد ألف سنة من مولده. هذا هو ابن سينا الطبيب والفيلسوف وعالم النفس الشهير، ومفسر القرآن، وفى نفس الوقت كتب فى الحب والموسيقى، وألف العديد من القصص الأدبية!!! هذا هو ابن سينا الذى يعد كتابه (القانون) فى الطب أشهر كتب الطب على الأرض قاطبة، حيث ستجد فيه المبادئ العامة للطب، وعلم العقاقير والأدوية، والأمراض المختلفة وعلاجها، والحميات، وكسور العظام، وكيفية علاجها وتجبيرها. وسيضع كتاباً مختصراً عن كتاب ابن سينا الأسطورى واحد من تلامذته فيما بعد هو ابن النفيس، والذى اكتشف الدورة الدموية الصغرى قبل مئات السنين من اكتشافها فى العالم الغربى، فى ثورة طبية حقيقية تعدل العديد من الموازين فى الطب. وكان لابن النفيس فضل كبير فى تقدم علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء، كما كان لغيره من الأطباء فى عصور ازدهار الحضارة الإسلامية العديد من الأدوار العظيمة، خذ عندك مثلاً وصف ابن أبى الأشعث وظائف المعدة، فى كتابه الغادى والمغتدى حيث كتب: «عندما يدخل الطعام المعدة، خاصة عندما تكون ممتلئة، تتسع المعدة وتتمدد طبقاتها.. الناظر للمعدة يراها صغيرة إلى حد ما، لذا فقد شرعت فى صب إبريق بعد إبريق فى فمها.. الطبقة الداخلية للمعدة المنتفخة أصبحت ناعمة كطبقة الغشاء البريتونى الخارجية. ثم قطعت المعدة وسمحت للماء بالخروج، فتقلصت المعدة، حتى رأيت فمها». دوّن ابن أبى الأشعث ملاحظاته تلك عام 959، وبعد نحو 900 عام، أعاد وليم بومونت وصف تلك الوظائف، مما يجعل ابن أبى الأشعث رائداً فى علم وظائف الأعضاء التجاربى، ورغم كل ما كتبنا، لا يمكن أن تكون إسهامات المسلمين قد انتهت فى الطب عند ذلك الحد، فقد أسهموا بالمزيد والمزيد، ومن ذلك ما سنحكيه سريعاً الآن. (6) مرحباً بكم فى عيادة الرمد، حيث أطباء الرمد فى عز ازدهار الحضارة الإسلامية يسمون «الكحالون»، وهم الذين استخدموا لأول مرة مصطلحات شديدة التخصص وباقية حتى يومنا هذا مثل القزحية والشبكية، وأجريت عمليات المياه البيضاء وارتفاع ضغط العين الداخلى والزرق، وكان (عمار الموصلى) الطبيب المسلم العراقى الذى عاش فى القرن العاشر أول من أجرى عملية صمم فيها ما مكنه من (شفط) المياه البيضاء، وتجميد عدسة العين قبل الشفط، واكتشف وعالج ما يزيد على 48 نوعاً من أمراض العيون، وكتب المؤرخ الشهير هيرشبيرج عنه أنه أمهر جراحى العيون العرب، كما يجب ألا ننسى على بن عيسى الكحال الذى عاش معاصراً للموصلى، والذى بقى كتابه (تذكرة الكحالين) مرجعاً لقرون عديدة، وينسب له الفضل هو والجرجانى من بعده فى التأكيد على أن أمراض العيون ربما تكون علامة على أمراض أخرى، ولا تنسى الأندلس، وتحديداً فى قرطبة جنوبإسبانيا محمد بن قسوم بن أسلم الشهير بالغافقى، صاحب كتاب (المرشد فى الكحل) لأمراض العيون، وأمراض الرأس والصداع والدماغ، لدرجة أنهم أقاموا له تمثالاً نصفياً لا يزال موجوداً حتى يومنا هذا (7) هل يمكن نسيان القصة؟؟ القصة لا يمكن أن تنسى، طالما هناك من يرويها.