تتعاظم دعوات النزول والاعتصام فى الميادين فى 30/6 فى القاهرة وغيرها من المحافظات، فى حالة فريدة تقودها استمارة «تمرد» الملهمة التى فجرت طاقات الغضب وجدلتها فى جدايل من الأوراق الموقعة بأيادى المصريين فى كل ربوع الوطن، إن الملايين المنطبعة أرواحهم وهويتهم على استمارة «تمرد» قد يكونون رقماً جديداً وصعباً فى معادلة محلية وفى تقنين دولى جديد أيضاً، لرفع الحكم من الخدمة لتقصيره وانحيازه وظلمه من واقع معادلة شعبية خالصة. ويبدو فى الأفق استجابة واسعة وعميقة من قطاعات متباينة من الشعب المصرى للنزول إلى الميادين والشوارع وإعلان الغضبة الكبرى فى مواجهة الحكم وأعوانه، وللقضاء على إقطاع الفكر، واستعمار الأجهزة الرسمية للدولة، فهذه الاستجابة للتوقيعات على «تمرد» قد تكون هى المرة الأولى بشكل واسع بعد توكيلات الزعيم سعد زغلول فى مواجهة المحتل الإنجليزى قبل 90 سنة من الآن، فى صورة واضحة لاسترجاع الذاكرة السياسية للشعب واجترار تاريخه فى لحظات المواجهات الحاسمة، وفى استخدام المصريين لبراءة اختراعهم وهى فكرة التوكيلات السياسية التى لم يسبقهم إليها شعب فى تاريخ الكون، حينما قام مليونا مصرى من جملة 14 مليوناً قبل 90 عاماً وتحت سياج احتلال دولة بريطانيا العظمى بفك حصار ذلك الاحتلال بهذه الفكرة الرائدة، فى دلالة على مصرية وإلهام تلك الفكرة. ومن الثابت تاريخيا أنه حينما حرر المواطنون التوكيلات للزعيم سعد زغلول لم تكن لديهم حلول وسط بديلة عن قيم التحرر الوطنية، ولم يستكن شعبنا لنفوذ خريطة الاحتلال التى تعدت حدود مصر الجغرافية تحت وطأة حرب عالمية كبيرة استهدفت بسط النفوذ على الكرة الأرضية بالكامل، خاصة الدول التى تتميز بجغرافية نشطة مثل مصر المكانة والموقع. كان من الممكن أن يتسرب لمصريى 1919 روح اليأس والاستكانة، أو أن يتفتق ذهن الاحتلال عن تسريب فكرة الدولتين أو على أقل تقدير فكرة إعطاء السلطة المحلية مع سحب السلطة والقرار السيادى الدولى، أو أى حلول وسط تقايض على السيادة والنفوذ فى الداخل والخارج، ولكن المصريين لم ينخدعوا ولم ينحرفوا عن مصريتهم وهويتهم، كذلك مصريو 2013 الذين وجدوا أنفسهم تحت سيطرة وسطوة احتلال داخلى من جماعة الإخوان ومناصريهم، الذين حولوا مصر اجتماعياً ووطنياً إلى دولتين؛ دولة إخوان تعيث فى أروقة الدولة الرسمية وتنقض على مقدراتها وتنشر الاحتلال من أعلى لأسفل، بتولية الأنصار والأحباء على حساب الكفاءات والخبرات، مستهدفة حلحلة أفقية فى المنظومة الوظيفية، يكون هدفها النهائى إحلال وإبدال دولة السيطرة والإقصاء والتمكين بالدولة العميقة. أيضا ظهر جليا احتلال القيم والأفكار الراسخة للمجتمع المصرى ومكونها الأساسى، وهو احترام الأديان السماوية، لابتزاز صريح باسم الإسلام وفى محاولة «تجبية» لا تستهدف إلا السلطة وتبتعد بعداً كلياً عن قيم الإسلام وسموه ورقيه واعترافه بالجميع، مما حدا بمفهوم الهوية المصرية الجامعة لأن يكون فى خطر بالغ وداهم! ومن الجدير بالذكر هنا أن نزول الإسلام على مجتمع كان رسالة واضحة للتفريق بين عظمة الدين وشموليته وكونه للجميع، فى مواجهة مفهوم الدول الأكثر محدودية من مفهوم المجتمع، ولقد كان دليلاً واضحاً أسبقية الإسلام إلى مفهوم الدولة، حيث كانت المجموعات البشرية فرقا وشيعا، ولم تكن تعرف إطار الدولة الجغرافية أو السياسية، ما يهدم من الأساس مفهوم الدولة الإسلامية الذى يتم ترويجه الآن فى استعداء لكل ما هو فى مواجهة تلك الجماعات، فى حين أنه لم يثبت على مدار التاريخ أن تلك الجماعات نجحت فى إقامة دولة رشيدة وثابتة، ولنا فى أفغانستان والسودان أسوة ومعنى! ومما سبق يجب أن نستوعب أن محاولة احتلال مصر تحت رايات الدين، وهى دعاوى مزعومة ومموهة، لن تبوء بالنجاح مثلما حظى الإسلام نفسه بنجاح كثيف وانتشار واسع فى مصر وغيرها من البلدان، وخصوصية مصر تاريخيا أنها كانت حاضنة جيدة وواعية لكل دين سماوى جديد، على رفضها الواضح لكل وافد محتل لأرضها، وتلك خصوصية تاريخية تتفرد بها مصر الدولة والشعب، حيث إنها كانت تتقبل الأديان وترفض قيم التغريب، وتتفاعل مع تطور الوعى الدينى والوعى بالإله ولا تتقبل فرض الوصاية على يد جماعه أو جيش! ومن تجارب التاريخ القديم ومتغيرات الواقع المصرى الآن، وجد المصريون أنفسهم فى مواجهة اختيارات ثلاثة؛ أولها: الخنوع لاحتلال جماعة الإخوان ومناصريها والاستكانة لقوانينها ودستورها واستركاع أجهزة الدولة الرسمية العميقة، أو الركون إلى حل الدولتين داخل مصر، فى أن تكون دولة الإخوان موازية للدولة المصرية فى احتكاك مستمر قد يطول وينهك دولة مستهلكة من الأساس، أو الخيار الثالث وهو الدخول فى معركة وجودية تعترف بالآخر وترفض احتكاره للدولة داخل طيات جلاليبه، وإخضاعه لمقدرات الهوية المصرية المتوارثة، التى تعترف بكل الأديان وتحترم الإسلام بالأساس كمحدد لأطر قوانينها التى تحترم بها المسيحيين وتعترف بحقهم ووطنيتهم وملكيتهم المشتركة للبلاد مع كل أبنائها المسلمين. تلك هى الاختيارات الثلاثة و«تمرد» كانت القرار! و30 /6 هو الميعاد، والرهان على المصريين جميعاً لينتشلوا دولتهم من فك الأخونة والسيطرة والانحياز والاحتكار والتهميش للغير فى ظل مشروع احتلال واضح بكل معالمه، ثقتى كبيرة فى رب العالمين وفى روح المصريين لاسترداد ثورة مصر إلى حضن أبنائها جميعاً.