لم تبدأ الأزمة هذه بقضية المنظمات الأمريكية التى تفجرت خلال الأشهر الماضية ولم تجد حلاً سريعاً بقرار تسفير المحتجزين الأمريكيين الذى أثار عاصفة من الاحتجاج المشروع فى البرلمان المصرى والرأى العام؛ فالخلفية الموضوعية للأزمة هى أن مصر والولاياتالمتحدة صاغتا علاقتهما الخاصة بجميع مكوناتها من تعاون عسكرى واقتصادى واستراتيجى فى سياق سياسى تبدل على نحو جذرى وأنتج من ثم اختلالات فى العلاقة بين الدولتين لم تعالج بعدُ. هدفت واشنطن دوماً، من علاقتها الخاصة مع القاهرة، إلى التحالف مع دولة قوية فى محيطها الإقليمى تستطيع أن تساعد فى ضمان المصالح الأمريكية المتمثلة فى شبكة نفوذ واسعة وإمدادات النفط وأمن إسرائيل بتشجيع معاهدات سلام بينها وبين الدول العربية. وفى هذا السياق برر للداخل الأمريكى تقديم المعونة العسكرية والاقتصادية لمصر وتطوير العلاقات التجارية، وبرر له أيضاً استمرار المعونة (خاصة العسكرية) كمكون ثابت للسياسة الخارجية لواشنطن، التى يندر أن تكون بها مكونات ثابتة. مرتكزات التحالف مع القاهرة منذ السبعينات كانت الرئيس السلطوى صديق واشنطن الأول والمؤسسة العسكرية وبعض المصالح الاقتصادية المرتبطة بعلاقات التعاون التجارى والاقتصادى مع الولاياتالمتحدة. والحقيقة أن واشنطن رأت هذه الأهداف والمبررات تتهاوى بالتدريج خلال السنوات الأخيرة؛ فقد تراجع الدور المصرى فى ضمان المصالح الأمريكية المتعلقة بالنفط منذ حرب الخليج الثانية فى بداية التسعينات واختفى تماماً بعد غزو العراق. واستبدلت الولاياتالمتحدة بمحورية القاهرة فى شبكة نفوذها الإقليمى وجودها على الأرض فى العراق وأدواراً متصاعدة لحلفاء جدد (دول الخليج). وانسحبت مصر تدريجياً من دور المفاوض العربى والمشجع على التفاوض مع إسرائيل مع تعثر مسار بناء السلام. ثم جاءت الثورة المصرية لتطيح بحليف واشنطن فى مؤسسة الرئاسة وتضعها مع اختيار جديد: إن بالتحالف مع الإسلاميين أو بالاعتماد فقط على التعاون مع الجيش. هذا كله أسفر عن اختلالات واضحة وتوترات مكتومة انفجرت مع قضية المنظمات الأمريكية وتعبر عن نفسها اليوم من جهة فى صمت الإدارة الأمريكية بشأن مصر وشعور الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته (على ما قيل لى بواشنطن) باليأس إزاء مستقبل العلاقة مع القاهرة، ومن جهة أخرى فى مساعى البعض داخل الكونجرس لتغيير تركيبة المعونة السنوية دون دراسة متأنية. أما مصر فالأطراف التى تدير اليوم علاقتها مع الولاياتالمتحدة بينها تباينات كثيرة ولا تمتلك سوى خبرة محدودة بشأن كيفية إدارة علاقة هيمن عليها القصر الرئاسى طويلاً. فعلى الجانب الرسمى، للمؤسسة العسكرية خبرة متراكمة فى إدارة ملف المعونة السنوية للجيش وشروطها. إلا أن الجوانب الأخرى للعلاقة وإدراك تعقد معادلات الداخل الأمريكى السياسية غائبة، كما أن الجيش يشعر بقلق شديد على مستقبل المعونة العسكرية. والخارجية المصرية لم تكن خلال العقود الماضية سوى منفذ لتوجيهات «الرئيس». أما الطرف السياسى الأساسى اليوم فى العلاقة المصرية - الأمريكية، وهو جماعة الإخوان، فلم يضبط أولوياته بعدُ ويتحرك خطابه قرباً وبعداً من واشنطن التى تريده بالفعل بديلاً جديداً للحليف الذى خلع. كما أن الطرف هذا ما زال غائباً عن مواقع السلطة التنفيذية، وهو ما يقلل من قدرته على إعادة صياغة العلاقة بفاعلية. مصر الرسمية والسياسية (أو بعض الأطياف على الأقل) لها أن تنظر بتوتر شديد لدور الإدارة الأمريكية فى ضخ أموال للداخل المصرى (اقتربت من 50 مليون دولار) فى الفترة التى تلت 11 فبراير 2011 وغياب الشفافية عن توظيف بعض هذه الأموال. والتوتر هنا ليس مبرراً لتسييس قضية المنظمات الأمريكية بالصورة التى تمت بها، بل كان يستدعى معالجة موضوعية وهادئة تضمن الشفافية والمحاسبة. هذه هى الخلفية الموضوعية لأزمة العلاقات المصرية - الأمريكية ودون التعامل معها ستظل التوترات المكتومة والانفجارات المتتالية حتمية.