الصدفة وحدها هى التى دفعت المخرج التسجيلى الفنان على الغزولى إلى النزول بكاميرته الخاصة إلى ميدان التحرير راصداً ومصوراً وموثقاً لما يحدث منذ اندلاع المظاهرات المندّدة بالنظام المطالبة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية فى 25 يناير، وحتى لحظة تخلّى مبارك فى 11 فبراير، ف«الغزولى» يقطن على بُعد أمتار من ميدان التحرير، جامع الثورة وكنيستها، حيث يقع منزله فى ميدان الشهيد عبدالمنعم رياض، وشاهد من شرفته، وصَوَّر، أكثر المواجهات عنفاً وقسوة بين شرطة النظام السابق وجموع الشعب الثائر.. رغم تلاحُق الأحداث، وغزارة المادة المصوّرة التى فاقت العشر ساعات، تمكّن «الغزولى» بدعم إنتاجى من صندوق التنمية الثقافية، وبالتعاون مع خبرة ومهارة فنان المونتاج أحمد متولى -الذى تقاسم، وأستاذ المونتاج كمال أبوالعلا، مونتاج معظم أفلامه- أن يلملم شتات الصور ويقترب بها من عالمه الخاص، فيقدّم فى «الشهيد والميدان» قصيداً نثرياً عن تلك الأيام الثمانية عشرة التى هزّت العالم. رغم تباين الموضوع عن أعماله السابقة، ووفرة ما قُدّم عنه فى مختلف وسائل الإعلام، فإن الفيلم لم يبتعد كثيراً عن عالم «الغزولى» وأسلوبه المتميز فى تناول موضوعاته، حيث تحمل الصورة، عادة، قيمة تشكيلية، ويشكل شريط الصوت بعناصره من موسيقى وتعليق ومؤثرات إضافة حقيقية لشريط الصورة. يستخدم «الغزولى» فى أفلامه، أسلوب الدراما التسجيلية كما فى «حكيم سانت كاترين» و«صيد العصارى» و«الريس جابر»، فيوظّف كل عناصر الواقع البشرية لأداء أدوارهم الفعلية دون التخلّى أو الإخلال بالجوهر التسجيلى الذى يستبعد تمثيل المحترفين واستخدام الديكورات، فأبطاله يعيدون إنتاج حياتهم أمام الكاميرا دون تزييف. من سمات سينما على الغزولى احترام الإنسان المصرى البسيط الكادح من أجل أن يبقى على قيد الحياة، محاولاً التعايش مع واقع ضنين، ووسط ظروف بالغة القسوة، متشبثاً بأمل، لا يتحقق عادة، فى تغييرها، كما يحرص «الغزولى» على تأكيد خصوصية المكان كما فى صحراء بحيرة «صيد العصارى» وبحر «الريس جابر» وأعماله عن العمارة المدنية والمساجد ورباعيته البديعة عن سيناء (أرض الفيروز، وسيناء هبة الطبيعة، وحكيم سانت كاترين، وقوافل الحضارة) التى يتبدّى فيها حسه التشكيلى وولعه بالتفاصيل، فهو فنان تشكيلى بالأساس له العديد من المعارض التى حظيت بتقدير فنانى ونقّاد الفن التشكيلى، و«الغزولى» مصور سينمائى نابه وبارع، شارك، قبل أن يتحوّل إلى الإخراج، كمدير للتصوير فى أعمال العديد من المخرجين التسجيليين، فهو وراء الكاميرا فى فيلمى داود عبدالسيد «العمل فى الحقل» عن الفنان حسن سليمان و«أسرة فنية» عن الفنان راتب صديق وفيلم أحمد راشد «300 فنان» وفيلم هاشم النحاس «منمنمات تركية»، وقد أضفى بوعيه التشكيلى حساً جمالياً مميزاً على تلك المشاركات. على الغزولى، الذى يكمل عامه الثمانين فى ديسمبر المقبل -أمد الله فى عمره ومنحه الصحة والعافية- والحاصل على نوط الامتياز عام 1988، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1994 وعشرات الجوائز المحلية والعربية والدولية كمدير تصوير أو كمخرج، فنان يتمتع بروح شابة وحيوية فائقة مع بساطة وتواضع جَمّ يمتلك الذكاء والقدرة على التعبير عن رؤيته للواقع والمجتمع من حوله، عشق الصورة، ثابتة على سطح لوحة فوهبتها فرشاته نبض الحياة، ومتحركة على شريط السينما يعيد بها، وفق رؤيته، ترتيب وتنظيم الواقع والوقائع.. وهو ما نلمسه فى لوحته التسجيلية «الشهيد والميدان» التى تجلّت فيها سمات أفلامه من احترام للمكان «ميدان التحرير وما حوله» والزمان «18 يوماً» والإنسان «ثائراً وشهيداً» ونجح فى منحها خصوصية وتفرُّداً -رغم تشابهها مع آلاف اللقطات التى زخرت بها الفضائيات- عبر صورة غير تقليدية وإيقاع رزين ينتقل بسلاسة ونعومة من يوم إلى يوم ومن موقف إلى آخر مع لمسة شاعرية مفعمة بالأمل تحتفى بلحظة نادرة فارقة فى تاريخ مصر. على الغزولى.. مخرج وفنان بدرجة شاعر.