طابور طويل يصطفّ، كلاكسات أكسبت المشهد تناغما مُزعجاً، أدخنة السيارات لبّدته غيوماً، رائحة الوقود تزكم الأنوف، عرق يتصبب من جبهات المنتظرين، يترقبون بأعينهم الثاقبة كل حركة للأمام، السباب واللعان يبدأ، تخرج الرؤوس من كبائن السيارات ترى المشهد بوضوح؛ «راجل معندوش دم والله.. يعنى هو أحسن مننا عشان يدخل قدامنا فى الطابور؟»، بينما يُعدل «عبدالرحمن إبراهيم» نظارته الطبية، تاركاً لرأسه الحرية فى الاستناد إلى مقعد «الميكروباص» الذى يعمل عليه منذ أكثر من 30 سنة: «أنا شغال سواق من أيام ما الرجالة طلعت». من رمسيس إلى أكتوبر «رايح جاى»، يومياً يسير عم «عبدالرحمن» على ذلك الخط بالميكروباص الذى هو عائل أسرته المكونة من «ولدين وبنت» فى ريعان شبابهم، يخرج من بيته الكائن بمنطقة الهرم صوب رمسيس، ومن هناك يُحمل الزبائن: «بنعمل كل يوم تقريباً 3 أدوار»، تستهلك سيارته 40 لتر سولار «صفيحتين»، أما فى أيام الأزمات، وإذا لم يجد «الجاز»، يُفضل البقاء داخل بيته، بفتات أموال اليوم الفائت. «مدمن السياسة» كما يقول عن نفسه، يؤكد أنه لأول مرة يقف «متنبلاً» أمام حال البلد: «والله العظيم ما انا عارف مصر رايحة على فين»، فعقله متناقض ما بين بقاء الإخوان فى الحكم حتى انتهاء مدة ال4 سنوات، وبين عدم امتلاكهم لأى رؤية سياسية أو اقتصادية أو حلول لأزمات البلد: «عاصرت السادات ومبارك.. لكن عمرى ما شفت الأزمة فى السولار بالشكل ده». 44 جنيهاً هى تكلفة 40 لتر سولار «تفوِّلها» سيارته، لكن فى ظل الأزمة الأمر مختلف: «لازم أدفعلى 10 جنيه زيادة للعامل بتاع البنزينة». يرى الرجل الخمسينى أن الأزمة فى نقص الكميات الواردة إلى محطات الوقود، علاوة على حجز أصحاب المحطات نصف الكمية لبيعها فى السوق السوداء بأسعار باهظة: «أصل مفيش رقابة». «أتعهد برعاية الأمهات المعيلات والعمال والحرفيين وأصحاب المهن وسائقى الميكروباص والتاكسى والتوك توك»، فئات خاصة ذكرها «مرسى» وقتما كان مرشحاً للرئاسة وعد برعايتهم.. «لأ ما هو باين.. ده احنا حتى بنقطع الطرق دلوقتى.. لأن الدنيا جميلة»، يقولها صاحب الخمسين عاما: «الوعود حلوة مفيش كلام.. لكن فين التنفيذ بقى؟»، أيام عدة جلس السائق فى البيت مع أولاده بسبب عدم وجود «السولار»: «مفيش فى إيدى حاجة ممكن أعملها.. والغضب كل يوم بيزيد.. طول ما الأزمة موجودة».. أكثر من 4 ساعات استغرقها صاحب الشعر الأبيض ل«تفويل» سيارته فى إحدى محطات الوقود بالدقى: «إحنا فينا اللى مكفينا والله العظيم». لكن أكثر ما يُحزنه عندما يقرر السائقون رفع الأجرة، وعندما يثور غضب الزبائن يمتصه بجملة: «الجاز غلى».