«بعد 45 يوماً فى الجيش، عاد لقضاء إجازته مع أسرته، الأم أعدّت كل شىء لخطبة ابنها، والأب جمّع «تحويشة العمر» لشراء شبكة ابنه الأوسط، الذى ساعده فى نفقات المنزل، طول عمره. البيت تعمه الفرحة ليس فقط فى انتظار العرس المرتقب، بل لولادة الطفلة «مريم» الذى انتظر والدها حضور عمها «حمدى» من الجيش ليقيم «سبوعها»، وترقّب أصدقاؤه وجيرانه فى «كفر صقر» بالشرقية يوم عودته».. أحداث كثيرة ظلت خيالاً فى عقل الحاج جمال، لم يتحقق منها شىء سوى عودة ابنه من الجيش قبل موعد إجازته بأيام، محمولاً على الأعناق، مرتدياً بدلته الميرى وليس بدلة العرس، ملطخة بالدماء لا بالعطور، كما تعودوا منه، فى احتفال كبير حضره أناس لا يعرفهم ولا يعرفونه، لم يكونوا من «معازيم» خطبة ابنه، بعضهم يبكون وآخرون يكبّرون، والحاج جمال واقف يتلقى العزاء بدلاً عن التهنئة، وهو يودع ابنه فى التراب بدلاً عن «الكوشة».. تفاصيل كثيرة لم ينسها الأب يوماً، ولن ينسَى أن من قتل ابنه لا يزال طليقاً ينعم بحياته. لمسات الشهيد «حمدى» ما زالت تكسو منزله، جوار البوابة كتب «الجنرال حمدى» وهو يمزح مع أصدقائه فى إحدى المرات، تركها والده كما هى، ووضع جوارها لافتة «هنا منزل الشهيد الجنرال». امتدت بصمات حمدى فى جنبات المكان، ليس فقط بذكرياته معهم، بل بعمله ك«نقاش» ماهر، كان ينوى طلاء منزل عروسه بنفسه، كما فعل فى منزل والده، براعته فى حرفته جعلته سند أسرته فى الإنفاق على أمه وأبيه ومساعدة إخوته وأولادهم.. بدموع لم تبرد بمرور الوقت تحدث الحاج جمال والد الشهيد: «عارفين يعنى إيه بيتى من غير حمدى، يعنى زهرة من البيت راحت منه، يعنى حرقة قلب ليل نهار، يعنى 9 شهور مروا عليّا وكأنى لسه دافنه إمبارح، يعنى نار جوانا لأن اللى قتله لسه عايش، ودم ابنى سخن مستنى قصاص كنت فاكره قريب». لوم كبير يلقيه جمال وأبناؤه على الحاكم الذى يرفض أن يلقبه بالرئيس: «مش هقول على مرسى رئيس إلا لما يجيب حق ابنى وأصحابه، إزاى يتعامل ببساطة فى حق شهداء ماتوا دفاعاً عن أرض مصر وحدودها، وإزاى يروح لموقع الجريمة ويرى دم أولادنا، وبكل بساطة ياكل الفطار مع القوات المسلحة هناك؟ بأى نفْس وأى منطق؟ هو لو ده دم حد من ولاده كان تعامل بالبساطة دى، كل أسبوع أروح أزور حمدى، ونفسى فى مرة أقوله: خدت حقك، اللى قتلك خد عقابه قبل ما أموت». لم يتوقف «جمال» عن الدعاء على من قتل ابنه، والدعاء لنفسه وأسرته بالصبر على مصيبتهم، حاول أبناؤه تهدئته فانتفض من مكانه وخرج من الغرفة مسرعاً، وعاد حاملاً صور الشهيد: «شاب زى ده مش هنقول يموت ليه لأننا مؤمنين، لكن حقه يموت معاه ليه؟ 16 زهرة اتقطفوا وهما صايمين، أى ملة وأى دين تحكم إن دمهم رخيص كده؟ انتظرنا وعد الفريق السيسى بالقبض على القتلة خلال أسبوع، ومرت أشهر لا حس ولا خبر، إذا كانت المشكلة إن مرسى يرفض إعلان القتلة، على الأقل برّدوا نار أهالى الشهداء، إذا كانوا من حماس أو مصريين يُعدموا أو يسيبونا ناكل قلوبهم بأنفسنا، لكن محدش حسسنا باحترام للشهيد، ولحين القصاص، فإن مرسى هو المتهم الأول». تبدأ أم الشهيد الحديث، لتهدئ انفعال الأب الذى عجز عن إخفاء دموعه، وتحتضن صورة ابنها وتقول: «ابنى فى الجنة شهيد، لكن إحنا اللى محتاجين حد يريح قلبنا، هو مرسى عارف يعنى إيه ابنى يجيلى فى الحلم بيبكى، فين حقه ومين باع دمه، إحنا عارفين إن مصر كلها مش ناسية شهداء رفح، بدليل إن ناس غريبة تطلعنا عمرة، منعرفهمش لكن هما عارفين يعنى إيه شهيد، ليه الحكومة واللى ماسكين البلد هما آخر من اهتموا بينا، حتى مرسى فى خطاباته الكتيرة مذكرهمش ولو مرة واحدة، دايما ما يتحدث عن شهداء الثورة، لأنه لولا ثورتهم لما وصل هو لكرسى الحكم، ولكنه نسى أن شهداء رفح كانوا يعملون على تأمين حدودنا بينما نحن نيام مطمئنين فى بيوتنا». وكأن زوجته ذكرته بشكواه من الحكومة وطلباته التى قدمها لها وما زالت حبيسة الأدراج، ليعود والد الشهيد ويتذكر خيبة أمله فى تعيين أبنائه فى أى أعمال حكومية، كما وعدهم المسئولون والرئيس، لينفقوا على الأسرة التى استشهد عائلها، تذكر الحاج جمال كيف طرق أبواباً كثيرة وجدها موصدة فى وجهه، حتى طلبه ب«رصف وسفلتة» الشارع المؤدى إلى منزله، فشل فى تحقيقه فوضع صورة ابنه الشهيد فى وسطه حتى لا ينساه أحد. يقول: «ابنى نسيته الدولة، لكن إحنا مش هننسى دمه، القصاص طلب 16 أسرة حياتهم أصبحت متوقفة على تنفيذه، وسيناء لن تحتفل بعيدها لأن دم ولادنا عليها لسه مبردش». أخبار متعلقة: 263 يوماً.. و«لسه حقهم مارجعش» الساعات الأخيرة ل 16 شهيداً.. «حان وقت دخول الجنة» «حامد».. تمسك ب«شرف الواجب» حتى الموت «حمادة».. الابن «البكرى» على 7 بنات «وليد».. «البهجة» التى غادرت قلب أسرته «إبراهيم».. «سند» العائلة الذى انكسر «بغدادى».. فى انتظار القصاص «محمد».. شهيد 21 رصاصة