كنت قد قررت أن أهدى هذا المقال لأمى، فى عيد الأم. ثم عدلت عن الفكرة، لأهديه لأمهات عديدات. الاستثنائيات، أمهات الاستثنائيين. أطفال «التوحد». مرض «الجمال والتحضر»، إن كان ما سبق مرضا. تلك الكائنات النقية المثقفة التى نجحت فى التخلص من «الترهلات» السلوكية التى نكتسبها مع الوقت ونراكمها لكى نساير الناس ونكسب حبهم. المتوحد، إنسان انتزع من معجمه الكثير من السخافات التى نرتكبها، نحن «الأسوياء»، دون أن يطرف لنا جفن خجل، ثم نسميها: «ذكاء اجتماعيا»! المبالغة، المجاملة، الإفراط فى المشاعر، التمييز بين الناس، هى بعض نواقص البشر، التى إن تجاوزت معدلها المقبول، دخلت فى خانة الرذائل. فتغدو المبالغة: كذبا، والمجاملة: رياء، ويغدو فائض المشاعر: نفاقا ومداهنة، والتمييز بين الناس يصبح: ظلما وربما عنصرية أو فاشية. المتوحدون نجحوا فى تنقية أنفسهم من كل ما سبق، حتى فى مستوياتها المقبولة. فلن تجد متوحدا يكذب، أو ينافق، أو يبالغ، أو يثرثر، أو يأخذ ما ليس له، أو يحابى أحدا على حساب أحد. لذلك يندرج المتوحدون فى خانة «الأغبياء اجتماعيا»، لدرجة أنهم لا يقبلون المجاز والرمز. فإن قلت لمتوحد: «عيونى لك»، سينظر لك باستخفاف لأنك تكذب، فأنت لن تعطيه عينيك! لكنهم دائما يمتلكون ملكة مذهلة تميزهم عن سواهم. فى الرسم، الموسيقى، الحسابات والرياضيات، النحت، إلخ. وأفخر دائما بأن ابنى «عمر»، هو الذى رسم لى لوحة غلاف ديوانى الأخير «صانع الفرح»، ولم يقبل منى كلمة: «شكرا». إنهم يعطون ويمضون فى صمت، قبل حتى أن يرمقوا الفرح والامتنان فى عيون من أعطوهم. عدت لتوى من حفل «المركز السويدى لذوى الاحتياجات الخاصة» لتكريم تلك الأمهات. وأجمعنا على رفض هذه التسمية، لأننا جميعا «ذوو احتياجات خاصة»، كما قال الكاتب عادل السنهورى. وسبق واقترحت فى مقال أن نسميهم: «الاستثنائيون»، لأن قدراتهم تفوق قدرات البشر العاديين. واجهتنى لوحة مكتوب عليها: Autism is my Super Power، «التوحد هو قدراتى الفائقة»، فقلت لنفسى: الحق قالت، تلك اللوحة. اصطفتِ الجميلات القائمات على هذا المركز المحترم. الاستشاريات: د. علياء النجار، د. إيمان جاد، د. جيل إنجلاند، والمشرفات: شيماء القربى، نهى حسام، لمياء عبدالعظيم، سوزان إبراهيم، فى خط نسائى جميل من أجل تكريم الأمهات الصغيرات اللواتى منحتهن السماء أطفالا استثنائيين. قدمن لهن الهدايا وشهادات التقدير، ثم جاء كل طفل «استثنائى» ليقدم زهرة لأمه الاستثنائية. مشهد يشبه القصيدة، التى أخفق الشِعر فى نظْمها. سامح الصريطى، الفنان المثقف الذى لا يغيب عن أى فعالية وطنية أو فكرية أو تنويرية، وجه كلمته للأبناء محذرا من التأخر فى إبداء مشاعر الحب والامتنان نحو الأمهات، كيلا يقولوا يوما: «عندما أصبحت جاهزا لأرد لها الجميل، لم أجدها». أرجو ألا أكون ممن تأخروا فى التعبير عن الحب لأمهاتهم. وها أنا أقول لأمى سهير: نامى فى سلام يا أجمل أم، وأجمل جدة، لأجمل صبى متوحد.