الإدارة الأمريكية لا تكل ولا تمل من أجل الوصول إلى أهدافها ومراميها.. تستخدم كل الأوراق الموجودة لديها أو لدى غيرها فى سبيل تحقيق مصالحها ومشروعاتها.. تعلمنا منذ صبانا الباكر أنها تدين فى أيديولوجيتها للفلسفة الداروينية الحديثة وهى «البقاء للأقوى».. لذا، فهى تسعى دائماً لحيازة القوة فى كل ميادينها ومجالاتها، العسكرية والاقتصادية والإعلامية، تتبع فى ذلك كل الوسائل، الظاهرة والخفية، الخشنة والناعمة، المشروعة وغير المشروعة، لكى تكون دائماً الأقوى دون منافس أو منازع.. الإدارة الأمريكية ليس لها فى ميدان العدل أو الاستقامة نصيب.. إذ لا بأس عندها، من أجل مصالحها، أن تكذب وتخدع وتضلل وتقتل وتنتهك كل الأعراف والقوانين.. لا بأس عندها أن تتناقض حتى مع القيم التى تنادى بها.. لا بأس عندها من توريط من توهمهم فيظنون أنهم أصدقاؤها، حتى إذا وقعت الكارثة وحلت المأساة بهم، نفضت يديها منهم وكأن الأمر لا يعنيها. لعلنا نذكر جيدا ما فعلته مع صدام حسين أيام مجده.. كيف أغرته لكى يغزو الكويت، مستغلة فى ذلك انتهازيته وعدوانيته وأطماعه.. وكيف أغوت العالم العربى ليقف معها، بماله وجنوده، من أجل طرد صدام من الكويت كى تجلس هى على منابع النفط، تتحكم فيها إلى ما شاء الله.. وكيف كذبت بعد ذلك على العالم لكى تغزو العراق، بزعم وجود أسلحة دمار شامل لديه، لتمزيقه وتفتيته وإضعاف قواه.. وكى يكون درسا وعظة وعبرة للسادة الزعماء العرب.. وما كان لها أن تفعل ذلك إلا بالتنسيق مع شيعة العراق فى الجنوب (وبإذن من طهران)، ومع الأكراد فى الشمال. جاء جون كيرى إلى القاهرة ليجتمع مع كل الأطراف، حكومة ومعارضة ومؤسسات مجتمع مدنى.. الهدف المعلن هو: «ضرورة أن يعمل المصريون جميعا من أجل بناء الديمقراطية، وتعزيز الاستقرار الاقتصادى والازدهار».. وهو هدف -فى ظاهره- جميل ونبيل.. لكن، منذ متى والإدارة الأمريكية حريصة على بناء الديمقراطية فى مصر، وهى التى ظلت وما زالت تدعم أنظمة الحكم الاستبدادية، ليس فى عالمنا العربى فحسب، وإنما فى كل دول العالم الثالث طالما كانت هذه النظم محققة لأهدافها ومصالحها؟! ما علينا.. لقد اجتمع كيرى برموز من المعارضة، وكان هدفه محاولة إقناعهم بضرورة المشاركة فى الانتخابات البرلمانية القادمة، على اعتبار أن المشاركة سوف تؤدى إلى تهدئة الأوضاع وإزالة أسباب التوتر والاحتقان فى مصر، وبالتالى التخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية الخانقة.. ونسى الرجل -أو تناسى- أن المعارضة لم يعد لها ذلك التأثير على «الشارع»، وأن الأخير أصبح يتحرك بمنأى عن أى سيطرة، وأن حركته هى نتيجة فقدان الأمل وضياع الحلم وإجهاض الثورة، علاوة على نزيف الدم المستمر على يد داخلية الدكتور مرسى، فضلا عن انتهاكات حقوق الإنسان من تعذيب واغتصاب ممنهج فى معسكرات الأمن.. إن كانت ثمة نصيحة توجه، فيجب أن تكون للدكتور مرسى، فالكرة فى ملعبه الآن.. لن أكون مبالغا إذا قلت أن إجراء الانتخابات وتشكيل مجلس نيابى جديد فى ظل هذه الأجواء لن يأتى بالاستقرار المنشود.. سوف تظل حالة الاستقطاب قائمة، إلا أن يشاء الله شيئا آخر، لكن لا يغيب عن بالنا تلك الحقيقة المؤلمة وهى أن الثقة مفقودة بين كل الأطراف، وهو ما يزيد الأمر سوءا وتعقيدا.