حين قامت ثورة يناير العظيمة انصهر الكل فى واحد، وبرزت أجمل خصال الشعب المصرى العريق من نبل وشهامة واعتزاز بالذات ورقى إنسانى يعكس أقدم حضارات البناء. كان الشباب المصرى هم طليعة الثورة ووقودها، بذلوا دماءهم الذكية فداء لرفعة الوطن واستعادة أمجاده، لم يشغلهم اعتلاء المناصب السياسية أو الاستحواذ على الحكم والسيطرة، وإنما عبّروا ببساطة وإيمان عن مطالب كل المصريين فى حياة كريمة تليق بحضارتهم من عيش وحرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية. هذه الرومانسية الحالمة والنقاء الروحى كانت سبباً فى إقصاء الشباب وازدرائهم وتهميشهم وعزلهم عن المشهد السياسى، وإتاحة الفرصة أمام القوة المنظمة التى ظلت تعمل تحت الأرض لسنوات طويلة، والتى تجيد الألاعيب السياسية وإقامة التحالفات المستترة التى ساعدتها على توجيه المسار السياسى على النحو الذى يحقق مصالحها فى اعتلاء الحكم، وكان ما كان من الترويج لغزوة الصناديق والتعجيل بالانتخابات التشريعية والرئاسية، وشبهة عقد الصفقات، فى حين كانت القوى السياسية الأخرى تعانى من التخبط والارتباك وفقدان البوصلة وحالة الترهل التى عمل النظام السابق على تكريسها. ساعد النظام السابق على جعل الأحزاب السياسية هشة وضعيفة، وكانت غالبية الأحزاب السياسية أحزاباً صورية منفصلة عن الشارع، وكانت تعمل كديكور يساعد على تجميل صورة النظام والإيحاء بأنه نظام ديمقراطى يضم أحزاباً متعددة. كان النظام السابق يُحكم قبضته على هذه الأحزاب، ويعيق حركتها فى الشارع ولا يسمح لها بعقد الندوات والمؤتمرات، وكلما برزت المعارضة أفرط النظام السابق فى التضييق عليها باستخدام كافة وسائل الترغيب والترهيب. كان حزب الوفد هو أقدم الأحزاب المصرية وأكثرها عراقة وشعبية حتى قيام ثورة يوليو 1952، وكان من الممكن أن يكون لهذا الحزب شأن كبير لولا حالة الانقسام التى سادته فى أعقاب الانتخابات الرئاسية لعام 2005 وما تلا ذلك من انقسام الحزب إلى فريقين حاول كل منهما التنكيل بالآخر وابتعد عن بناء كوادر جديدة مؤهلة لممارسة العمل السياسى، كما افتقد هذا الحزب القدرة على الحشد الجماهيرى ولم يحسن استغلال رصيده الوطنى السابق فى وجدان المصريين. أما الحزب الآخر الذى كان يمكن أن يكون له دور بارز على الساحة السياسية فهو حزب التجمع الوحدوى الذى لم يتمكن من استعادة رصيده الشعبى بعد الضربات المتوالية التى نالها فى ظل نظام حكم الرئيس السادات فى سبعينات القرن الماضى، وافتقد هذا الحزب القيادات الملهمة القادرة على التواصل مع العمال والشباب والطبقات الفقيرة والمهمشة. من جانب آخر كانت النخبة المصرية منعزلة فى أبراجها العاجية ومحدودة التأثير على الجماهير، وورثت هذه النخبة من النظام السابق الحرص على المصالح الفردية الضيقة، وانتهاز الفرص، والسعى للتقرب من السلطة الحاكمة أياً كانت، كما تميز الكثيرون من النخبة بالغشاوة وافتقاد البصيرة والتفكك وإعلاء الشأن الذاتى على الصالح الوطنى. إذن، هل من سبيل لاستعادة الثورة المسروقة؟ بالتأكيد نعم، والرهان الأكيد، بل الرهان الوحيد، على شباب هذه الأمة، شباب لا يعرف اليأس ولا الاستسلام، شباب قادر على صناعة المستحيل. هل كان يتخيل أحد أن يسقط نظام حسنى مبارك بما يملك من أدوات القوة والسيطرة على مدار ثلاثين عاماً فى ثمانية عشر يوماً فقط؟ إنهم الشباب الذى حاز القدرة على امتلاك التكنولوجيا الحديثة واستثمارها فى إعلاء قيم الحرية، والديمقراطية والكرامة الإنسانية، هؤلاء الشباب الذين امتلكوا الواقع الافتراضى عبر الإنترنت قادرون على امتلاك الواقع الاجتماعى، شرط أن يستعيدوا وحدة الهدف ويتخلوا عن التناحر والتشرذم، ويزداد تواصلهم مع الجماهير الكادحة، ويتمرسوا على العمل السياسى. حينئذ سوف تستعيد الثورة ذاتها، وأكاد أرى ذلك فى يوم قريب فى حين يراه غيرى أملاً بعيداً.