هذه صفحات من كتاب «ما بعد إسرائيل»، الذى صدر مؤخراً للكاتب السياسى أحمد المسلمانى، والذى نفدت طبعته الأولى فور صدوره، وتنشر «الوطن» أحد فصوله، الذى يتحدث فيه الكاتب عن الدين والسياسة فى إسرائيل، وعن المتدينين اليهود الذين يريدون تطبيق الشريعة، ويرون أن من لم يحكم بما أنزل الله فى التوراة حكام كافرون. وهم من يرون أيضاً أن الموسيقى حرام، والغناء حرام، والفنون حرام، ووجه المرأة عورة، وصوت المرأة عورة، وحياة المرأة هى رحلة واحدة من المنزل إلى القبر. وهم من ينتقدون نتنياهو كل يوم لأنه لا يطبق الشريعة ولا يُقيم الحدود من قطع يد السارق إلى جلد شارب الخمر إلى رجم الزانى. ويرى الكاتب أن تطبيق «الشريعة اليهودية» فى إسرائيل سيدفع إسرائيل للمزيد من العداء للإسلام ولكنه سيدفع -فى الوقت ذاته- بإسرائيل إلى الهاوية.. سوف تشهد إسرائيل «ربيع الدين» ولكنها ستشهد معه «خريف الدولة». (1) إذا ما كان الدين هو هدف الفهم والتأمل لما يجرى فى إسرائيل، فإن المشهد يثير الضحك: جموع من المؤمنين وجموع من الملحدين سواء بسواء! عدد كبير يذهب إلى حائط المبكى، وعدد أكبر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.. ولكنه قد يعطى صوته لأولئك المتدينين الخاشعين! كان «بن جوريون» ملحداً، ورفض دخول المعبد اليهودى، ولكنه آمن بالصهيونية وأقام دولة إسرائيل، وهو الذى لا يؤمن بالتوراة ولا بأنبياء بنى إسرائيل، وكان يسأل عن قبر أرنست بيفن، وزير خارجية بريطانيا، ليذهب إلى القبر ويدوسه بحذائه، لأنه لم يساعد فى خطة إنشاء إسرائيل! وهو أيضاً الذى ألغى مبدأ التعليم الرسمى الموحد، وسمح للمتدينين بتعليم مستقل فى مدارس دينية، وأعفاهم من أداء الخدمة العسكرية! وكثير من الإسرائيليين ليسوا معنيين بتفاصيل الدين اليهودى، وكثير من الكثير غير معترَف بيهوديتهم، لأن الحاخامات لم يقتنعوا بإيمانهم. (2) على الرغم من ذلك، فإن الجميع يحمل داخله درجة من الأصولية حتى لو كانوا غير مؤمنين! وتقول إحدى النكات الشهيرة: «لو عاش واحد يهودى فى جزيرة، فإنه يبنى معبدين.. أحدهما لكى يصلى فيه والثانى حتى لا يصلى فيه»! والمعبد اليهودى هو بناية صغيرة متواضعة نوعاً ما، تتسع لنحو ثلاثين أو أربعين من المصلين الذكور، ومساحة أخرى صغيرة ومستقلة أو شرفة داخلية للنساء. وفى إسرائيل 60 ألف معبد يهودى، وتقام الصلاة فى كل صباح وفى كل مساء، وفى صباح السبت تكون المعابد مليئة بالمصلين. ويجتمع كبار الحاخامات أثناء الغروب من كل جمعة فى قرية «غريفات» فى جبل ميرون بمنطقة الجليل الأعلى بالشمال، مرددين أنشودة دينية عنوانها «فليأتِ من نحب».. بانتظار ظهور المسيح لمواكبته إلى القدس مشياً على الأقدام. (3) تضم إسرائيل ثلث يهود العالم.. أى خمسة ملايين يهودى من بين 15 مليونا من اليهود فى العالم. وتختلف اليهودية عن معظم الأديان، فى كونها ديناً مغلقاً، حيث لا يحق لأى إنسان أن يعتنق اليهودية، خلافاً لعموم المبادئ والأديان التى تعمل لزيادة المؤمنين بها. ولكى يكون الإنسان يهودياً يجب أن يكون من أم يهودية، وما زالت محاكم إسرائيل ترفض الاعتراف بيهودية مواطنيها من أب يهودى وأم غير يهودية. يذكر سهيل ديب فى كتابه «التوراة.. تاريخها وغاياتها».. أن الحاخام الأكبر فى حيفا قد اعترض على زواج أحد ضباط المظلات من جاليا بن جوريون (حفيدة بن جوريون) لأنها من أم إنجليزية مسيحية، والحجة التى قدمها الحاخام أنه ليس هناك أى إثبات على أنها يهودية! (4) وفى إسرائيل أحزاب دينية، وجماعات دينية، وأشخاص مهووسون، يمارسون العنف الدينى ضد اليهود العلمانيين.. فضلاً عن المسلمين والمسيحيين فى فلسطين. فى نوفمبر عام 2001م، هددت وزارة الداخلية الإسرائيلية بفرض عقوبات صارمة على الذين يضبطون وهم يخالفون الشريعة ويأكلون الخبز فى الأماكن العامة فى المناسبات الدينية، وقال إيلى يشائى، وزير الداخلية: «على الجميع احترام القانون الذى يحظر استهلاك الخميرة، وسوف يقوم مفتشون من الوزارة بفرض غرامات على كل من يتناول الخبز».. وأعلن إسرائيل لاو، كبير الحاخامات، دعمه للإكراه فى فرض احترام التقاليد الدينية. فى نفس التوقيت وافق الكنيست بشكل مبدئى على تشريع يقضى بسجن النساء اليهوديات اللاتى يصلين عند حائط المبكى بالقدس. ويفرض التشريع عقوبة السجن عدة سنوات على كل امرأة يهودية ترتدى «شالاً» للصلاة، وتقرأ بصوت عالٍ من التوراة عند حائط المبكى، وهو تشريع وقف وراءه الأصوليون لإبطال حكم المحكمة العليا الإسرائيلية بمنح النساء حق الصلاة عند حائط المبكى، مخالفاً للتقاليد المتشددة اليهودية، الأمر الذى دعا ناعومى كازان، نائبة الكنيست عن حركة «ميريتس» اليسارية، للقول «إن ذلك التشريع الذى يفرق بين النساء والرجال إنما يضع إسرائيل فى خندق واحد مع إيران وأفغانستان». (5) وفى بلدية «بنى باراك» قرب تل أبيب، أصدر حاخام البلدية فتوى بمنع النساء من الاختلاط بالرجال بداخل عربات المواصلات العامة. وأفتى آخر بمطاردة النساء المتبرجات، وظهرت منشورات وملصقات تؤكد أن كل فتاة تعيش فى حى يهودى وتلبس قصيراً أو كاشفاً سوف تتعرض للضرب، ودعا أحد الملصقات إلى «قتل كل متبرجة فى إسرائيل». وصار المتطرفون اليهود يعترضون النساء فى الشوارع ويمزقون ملابسهن حتى يصرن عاريات تماماً، ومن المدهش أن عدداً وفيراً من الشواذ والمجرمين كانوا ينفذون الفتوى بإخلاص شديد، وفى كل يوم سبت يرشقون السيارات بالحجارة، حتى على الطرق السريعة، وتصل الحوادث المسجلة لدى الشرطة إلى أكثر من عشرين حادثاً فى الشهر. يذكر أمنون كابيليوك فى كتابه «رابين.. اغتيال سياسى» أن الأصوليين اليهود منعوا المطربة الإسرائيلية ميرى آلونى من الغناء بإحدى قاعات نيويورك نظراً لاعتبارهم أن صوت المرأة عورة. وفى عام 1995م مارس الأصوليون ضغوطاً لوقف التنقيب عن الآثار فى مناطق المقابر اليهودية حتى لا يقلق ذلك راحة «عظام الموتى»، مما دعا المدعى العام الإسرائيلى إلى إصدار قرار بعدم اعتبار «العظام» من الآثار. (6) وإذا كان بعض الحاخامات يذهبون إلى الجليل فى انتظار المسيح، فإن الملياردير اليهودى الأسترالى جوزيف جوتنيك يتزعم حركة دينية متطرفة اسمها «شاباد» يرى أعضاؤها أن الحاخام «شنيرسون» هو المسيح المنتظر، وأنه قد اختار الملياردير الأسترالى ليكون مبعوثه إلى يهود إسرائيل! يرى بعض الأصوليين أن حدود إسرائيل، حسب التوراة، ينبغى أن تشمل مدينة حمص السورية، ويرى آخرون أنها تشمل حماة، وحلب.. وبعضهم يراها تشمل تركيا، وذات مرة طالب أحد الحاخامات بحقوق تاريخية لليهود فى قبرص! والماثل وراء هذا كله أن الدين اليهودى على حالته الراهنة يقاوم تماماً قيم العقلانية والتنوير، وأن التراث الدينى والممارسات القائمة تقف على النقيض من عصر العقل وقيم الحداثة.