ونحن ما زلنا بحضرة المشروع العملاق الذى أراه استثنائياً، كونه تصدى بالعلاج للمرة الأولى للظاهرة الأكثر تعقيداً فى مشهدنا المصرى وهى أحزمة العشوائيات الخانقة، هذا المشروع نقل بعضاً من سكان أحياء شديدة الخطورة إلى مجتمعات جديدة، وهى ضربة بداية موفقة وواسعة إلى الأمام، وأكرر فى نفس ذات المكان أن التعامل معها كمشروع معمارى، فضلاً عن الغبن بحق الإنجاز هو قصور فى الرؤية ووقوف غير مبرر فى منتصف الطريق، فقد فجر إبهار المشهد مساحات من الطموح المشروع، صاحبه طوفان من التساؤلات المكملة والمرشدة، أولها من الذى سيدير تلك الأحياء؟ ووفق أى نوع من الإدارة ستكون طبيعة الحياة فيها؟ فقد كانت هواجس اصطحاب العشوائية إلى هذا المجتمع الوليد حاضرة باستدعاء النماذج المماثلة، وبالصمت الغامض على الجانب العلاجى والتأهيلى لتلك النقلة الحضارية. إنجاز الدولة فى هذا المشروع حاضر بحضور الرئيس شخصياً، والإرادة الصادقة والصارمة دفعت العمل وفق خطط زمنية ألزم بها الرئيس نفسه علانية، ونموذج إشراك المجتمع المدنى فى تلك النقلة تُرجم فى تصدى صندوق «تحيا مصر» للتمويل بمشاركة فاعلين آخرين، وهو نموذج لم يتصد أحد لتفسيره واستدعاء أطراف أخرى يفترض بها أن تكمل خطوات الإنجاز، وهذه بالضبط هى مساحة الغموض ومكمن الهواجس، فالمشروع مثلاً تم فى محافظة القاهرة والمنقولون من الأسر المستفيدة جاءوا من أحياء قاهرية، فحتى الآن لم يتقدم محافظ القاهرة بعد هذا الإنجاز لعرض أعداد الأسر والمنازل التى تم إخلاؤها، ولمن ستؤول ملكية الأراضى التى كانت تحتضن تلك العشوائيات، التجارب الدولية المماثلة فى هذا الإطار تستدعى الإفصاح والترويج للخطة المتكاملة التى يفترض وجودها، كما تفترض تكامل إدارة تلك الأماكن الجديدة وفق ضوابط صارمة، لمنع انقلابها لعشوائيات أو نكوصاً عن الغرض التنموى، وفى هذا الجانب يتصور استدعاء أطراف فاعلة أخرى بعضها من الدولة، والكثير من المجتمع المدنى المعنى بالعمل على ملف التنمية المجتمعية والبشرية، من أجل الإصرار على صناعة النموذج «الموديل» الدال على الانتقال الحضارى، واستخدام هذا النموذج القادر على الإجابة عن أسئلة التعايش والنقل والتوظيف والتأهيل السلوكى والثقافى، من خلال اعتماده على الجهد المجتمعى الذى يجب التكليف به وإبرازه، حتى يمكن الوصول إلى مشارف الإنجاز المستهدف من تلك المجتمعات، وعن حديث الإمكانيات، يقف فى ذات المساحة من الغموض وزارات مثل الشباب والثقافة، فهما لم يتسلما الخيط من الرئيس أو لم يكلفا من رئيس الحكومة بعرض خططهما للعمل على تلك المجتمعات، خاصة والحديث عن أى تطوير سلوكى وعلاج مجتمعى منوط بقدرات هاتين الوزارتين بكوادرهما المؤهلة للمهمة، فضلاً عن أن الخطط والإنجاز يستلزمهما تمويلاً يحتاج وجود خطة لتوفيره ذاتياً أو بإشراك المجتمع المدنى فيه، وهذا الأخير الذى تتم شيطنته بالكامل هو من تعتمد عليه كافة الدول فى مشروعات من هذا النوع، حيث يتصور عجز الحكومات عن تمويلها تحت وطأة التزاماتها المتعددة والمتشعبة، لذلك وفق الروشتة الدولية يتم استدعاء منظمات المجتمع المدنى والتواصل معها وفق خطط وتكليفات محددة، فلا يجوز التباطؤ بترك الأمور غائمة والوقوف بمبررات العجز المالى فى منتصف الطريق، فكما بدأت الفكرة قفزاً على ضعف إمكانيات الدولة المادية بالاستعانة ب«تحيا مصر»، يمكن استكمال منظومة إدارتها وهو دور لا يقل أهمية عن البناء اعتماداً على مثيلاتها ممن يستطيع أن ينتج عملا أهلياً حقيقياً، سيصب فى نهايته لصالح الوطن، كما يمكنه أن يترجم الطموحات والحماسة الشبابية لواقع فعلى، من خلال نسج تصوراتهم المستقبلية لمجتمعات صحية تشكل إضافة حقيقية للرصيد الوطنى، فليس هناك أقدر على صناعة المستقبل و«النموذج» ممن يمتلكونه بأعمارهم وأحلامهم وطموحهم، فلندفعهم ونكلفهم بما سيرونه ماثلاً أمام أعينهم بعد سنوات ليست بالبعيدة.