للنساء فى مصر سر عجيب، نجدهن فى كل منعطف تاريخى يقررن بهدوء ويمضين بعقل ويبقين علامات فى التاريخ، ففى الإسكندرية كانت «هيباتيا» أول امرأة يلمع اسمها كعالمة رياضيات وفلسفة، وعرفت بمقاومتها للجهل والسيطرة على العقول بالاتجار بالدين، كان لها مريدون، ويحج إليها طلاب العلم من كل حدب وصوب. كانت تقف أمام حكام المدينة وقضاتها للدفاع عن الحق، وكان التفاف الجمهور والمثقفين حولها يثير جنون المتشددين الدينيين الذين أدركوا خطورة «هيباتيا» على هيمنتهم على الإسكندرية، فعندما أشعل المتطرفون صراعاً طائفياً تصدت له «هيباتيا» بقوة العلم، ولأن الفكر عدو الغوغائية والتطرف قُتلت على يد حشد من الغوغاء والمتطرفين، وكان مقتلها بداية القضاء على العلم والفكر فى الإسكندرية وانتشار الإرهاب. بعد ألفى عام عادت «هيباتيا» من جديد كأول قاضية مصرية فى المحكمة الدستورية العليا نظراً لكفاءتها فى المحاماة وبعد أن شغلت منصب عضو نقابة المحامين، وهى أول سيدة مصرية وعربية تنتخب فى المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب. أطلق عليها فى نقابة المحامين لقب «الموجعة للإخوان»، نظراً لتصديها إلى محاولاتهم الهيمنة على مجلس النقابة، وكشفت استغلالهم لمواردها فى معسكرات التنظيم باسم معسكرات الشريعة، وغير ذلك الكثير. كانت موجعة لهم على المستوى المهنى والنقابى والسياسى، وأيضاً الإحساس بالرجولة لدى صغار العقول منهم، لأن الحاجز المنيع ضد التمكين من النقابة امرأة. ظل جرح «تهانى الجبالى» مفتوحاً لدى الجماعة، فأثار قرار تعيينها بالمحكمة فزع الخلايا المستترة للإخوان المسلمين داخل القضاء وخارجه، ولم يجد القضاة المعارضون لتعيينها مبرراً سوى ركوب الدين، وادعوا زوراً أن عمل المرأة فى القضاء أمر تمنعه الشريعة الإسلامية والقضاء، لأن وجود «تهانى» فى المحكمة مهدد لسلطتهم السياسية بإصرارها على إعلاء دولة القانون، ومهدد للخرافات التى تساعدهم فى الهيمنة على عقل المجتمع. كانت وما زالت القاضية الأكثر قوة، التى قال عنها المستشار أحمد الزند: «إنها وسام على صدر القضاء المصرى». بكفاءتها شجعت على تعيين أكثر من أربعين قاضية أخرى، وإن كانت المعركة مستمرة لمنع المتفوقات من كلية الحقوق من الالتحاق بالقضاء، متسترين بالدين تارة وبالاستقلال تارة أخرى، لكن كشفت «تهانى» أن هذه المعركة المفتعلة ما هى إلا أفكار الجماعة، وأجابت بحضورها عن سؤال «كيف يقف من يدعون أنهم قضاة استقلال ضد تطبيق المساواة والعدالة والقانون فى مؤسسات العدالة، ويقبلون تعيين الإخوة والأقارب حتى لو أقل كفاءة؟». حصلت «تهانى» على أعلى الأوسمة والدروع التكريمية، لكن يظل الوسام الأكبر أنها كانت الاسم الأبرز حينما طالب الثوار بمجلس رئاسى لحكم مصر بعد الثورة، والدرع العظمى هى تفصيل كائن مشوه أشبه بكتاب القذافى الأخضر يسمى الدستور حتى يتم الإطاحة بها، حتى لو تم الإطاحة بمصر كدولة قانون. كائن لم يحترمه الرئيس وأصدر شهادة وفاته قبل ميلاده، حينما داسه بالحذاء وعين ثلث مجلس الشورى طبقا لدستور 1971 الساقط، كائن لم يمر عليه أسبوع، ولم يصل للأربعين يوماً حتى تحدث من أنتجوه بضروره تغيير ما يقرب من ثلث مواده. ولأن الغمامة انكشفت والتاريخ لا يعود للوراء لن يتمكن الغوغاء من «تهانى»، وستدخل المتفوقات من كليات الحقوق القضاء من أوسع أبوابه، وهذا الكتاب الأخضر المسمى «الدستور» سيسقط ويسقط معه تجار الدين، وتكون مصر دولة العدالة والمساواة والحق والقانون.