أعجبنى جدا تعبير أخى وصديقى الاستاذ محمود سلطان رئيس التحرير فى مقاله يوم الأربعاء الماضى، وهو يصف وضعية تهانى الجبالى، قال أنها مثلما كنا نرى فى الأفلام القديمة التى يظهر فيها البطل فى البداية فقيرا بائسا تلاحقه الديانة، ثم يظهر له خال أو عم مليونير توفى فى بلاد بعيدة، فيحج إليه الذين طالما نفروا منه، ويتنازل له الديانة عن ديونهم، ويخطب وده الأكابر، ويتودده الجميع، ويعيش هذا الانسان البائس فى الدور، ويصدق انه أصبح من الأثرياء وعلية القوم، ثم فى النهاية يكتشف أنه لا يمت بصلة للذى قيل أنه خاله أو عمه وأنه كان يعيش حلما واستفاق منه، فيفقد الرجل صوابه ثم يجن من وقع الصدمة. السيدة تهانى محمد الجبالى من مواليد 1950بإحدى قرى الغربية، تخرجت فى كلية الحقوق عام 1973، وعملت محامية بإدارة الشئون القانونية لجامعة طنطا، ثم تركت العمل الحكومى عام 1987 واشتغلت محامى حر، وقيدت محامية بالنقض بتاريخ 18 مارس سنة 1990، وكان عدد محامى مصر حتى ذلك التاريخ فى حدود مائة ألف محامى، لكنها من بين هؤلاء جميعا جاءها البشير فى ليلة القدر ليقول لها: "امسحى دموعك يا تهانى .. من النهاردة مفيش أحزان"، وفى لمح البصر وجدت المرأة نفسها مستشارا فى أعلى هيئة قضائية بجمهورية مصر العربية، لها مميزات وحصانات لا حصر لها. فى 22 يناير سنة 2003 صدر (قرار جمهورى) بتعيينها قاضيا بالمحكمة الدستورية العليا، ولم يعترض أحد على تعيينها بقرار رئاسى، ولم نسمع صوتا لزندى أو غير زندى يعترض على طريقة تعيينها، واستحضارها من (بيئة) غير قضائية، وتعبير (بيئة قضائية) منسوب إلى المستشار أحمد الزند، الذى برر تعيين أولاد القضاة فى النيابة رغم عدم استيفاءهم للشروط بأنهم من (بيئة قضائية)، رغم أن الزند نفسه (بيئة) غير قضائية، فوالده ولا أحد من أسرته لم يكن قاضيا، لكنه شب فى (بيئة) صوفية طنطاوية. أثار قرار تعيينها جدلا واسعا في الأوساط الدينية والسياسية بل والقضائية ذاتها, القضاة المعارضون لتعيينها اعتبروا عمل المرأة في القضاء أمرا تمنعه الشريعة الإسلامية وأعراف القضاء, أما المؤيدون بتحفظ فضلوا أن يبدأ عمل المرأة كقاضية من المحاكم الشخصية والابتدائية لا مباشرة في العمل بأعلى محكمة قضائية في البلاد, بل إن شيخ الأزهر قبل تعيينها قال فى إحدى المناسبات أن تولي النساء منصب القضاء أمر غير مقبول من الناحية الشرعية. كانت كل وسائل الإعلام تلهث وراءها، رغم أننا لم نعهد ظهور رجال القضاء فى وسائل الإعلام، لكن الست كانت تقضى ثلثى يومها أمام الكاميرات، ومع الصحفيين من جميع بقاع الأرض، والثلث الباقى من يومها موزع بين النوم والطعام وقضاء حاجاتها، وقد يبدو أنه والحال كذلك تبدو أجندة يومها خلو من أى وقت للعمل، لكن هذا قول مردود عليه، لأن السيدة المستشارة كان عملها يتم بمنتهى الشفافية أمام الكاميرات، بمعنى أنها كانت تطرح القضايا المعروضة عليها، وتنطق بالأحكام أيضا أمام الشعب تطبيقا لمبدأ علانية التقاضى. بعد صدور (القرار الجمهورى) بتعيين تهانى قاضية فى المحكمة الدستورية، وجدنا صورتها تتصدر أغلفة المجلات بما فيها المجلات الفنية، ومجلات الأزياء والموضة، بل ومجلات البيزنس، واشتعلت حملة إعلامية مدوية لتلميع القاضية الأولى فى تاريخ مصر، وتسابقت وسائل الاعلام فى عمل الأحاديث معها، وتسابقت كل مؤسسات الدولة من جامعات ونقابات وهيئات لتكريمها ومنحها الأوسمة والدروع وشهادات التقدير، وفى خلال وقت قصير أصبحت من نجوم المجتمع. السيدة الكبيرة حققت أكثر من سبق، فهى أول قاضية فى تاريخ مصر، وأول من يعين من نقابة المحامين فى سلك القضاء (بقرار من رئيس الجمهورية) بناء على توصية من السيدة (الفاضلة) زوجة رئيس الجمهورية، وبترشيح من نوال السعداوى (ومصر كلها تعرف من هى نوال السعداوى)، وهى أول قاضى يظهر فى وسائل الاعلام ضاربا بهيبة ووقار القضاء عرض الحائط، وأول قاضى يتحدث على مرأى ومسمع من الملايين فى تفاصيل القضايا المعروضة أمامه ليفصل فيها. بعد الثورة لعبت الست تهانى دورا خطيرا فى المشهد السياسى، فنقلت إقامتها لمدينة الانتاج الاعلامى حيث مقر كل الفضائيات، وكان وظيفتها تمهيد الطريق لأى قرار يتخذه المجلس العسكرى الحاكم قبل صدوره، ثم تبريره بعدما يصدر، وارتدت زى (المفتى) الذى يحلل ويحرم بما له من قدرة على تفسير النصوص طبقا لهواه، ثم تقمصت دور القائد العسكرى، فكانت فى تلك المرحلة تأمر وتنهى وكأنها مارشال، ثم أصبحت وكأنها الفيلد مارشال تهانى، أو (الفيل دى مارشال) تهانى، التى كانت عضوا أساسيا وفاعلا فى المجلس العسكرى الحاكم، ودورها الأساسى هو "طهى القوانين" للجنرالات. تولت الفيل دى مارشال تهانى مهمة (طبخ) القرارات والبيانات للمجلس العسكرى التى كان هدفها الأساسى تمديد أجل الحكم العسكرى للبلاد، ولما أجريت الانتخابات التشريعية بعدما سالت دماء جديدة للمصريين فى شارع محمد محمود، وأسفرت الانتخابات عن فوز الاسلاميين بالأغلبية فى البرلمان بغرفتيه، تلاقت إرادة الفيل دى مارشال مع باقى جنرالات المجلس العسكرى فى ضرورة حل البرلمان المنتخب بالمخالفة لكل القوانين والأعراف، واعترفت بعد ذلك فى حديث (مسجل) لصحيفة "النيويورك تايمز" بأنها "نصحت المجلس العسكري بعدم التنازل على السلطة للمدنيين"، فاتفقت المستشارة (المستثارة من العلمانيين) والمجلس العسكرى على حماية الدولة من الاسلاميين والحيلولة دون تمكنهم من الحكم، ولذلك تقرر حل البرلمان بعدما أشارت مؤشرات الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية إلى أن الفائز بمنصب الرئاسة سيكون الدكتور محمد مرسى رئيس حزب الحرية والعدالة المتفرع عن جماعة الاخوان المسلمين. ولما اصدر الرئيس محمد مرسى قرارا (ثوريا) بما له من صلاحيات شرعية بعودة مجلس الشعب للانعقاد، انتابت حالة من (الهياج) الشديد شخصان فى مصر، الأول هو رئيس نادى القضاة الذى ترك عمله كقاضى وتحول لناشط سياسى فاعل خلال موجة الفوران الثورى التى أصابت كثيرين بعد نجاح الثورة فى إسقاط النظام، وحول النادى لحزب سياسى يحضر جمعياته رؤساء الأحزاب والفنانين والسياسيين والمحامين والمهندسين والحرفيين ... الخ، فضرب هيبة القضاء فى مقتل، وجعلهم محل انتقاد وسخرية المجتمع، ونزل بهم من على (المنصة العالية) إلى ميدان التخاصم، فأصبحوا بسببه خصما مهانا من الصعب جدا عودته لمنصته العالية. أما الشخص الثانى الذى انتابته حالة (الهياج) هذه فكانت هى الفيلد دى مارشال تهانى، التى نقلت متاعها وفراشها وزادها وزوادها لمدينة الانتاج الاعلامى بجوار فضائيات البيزنس الفلولى، وأقامت هناك بصفة دائمة، تتنقل على مقاهى التوك شو، بين لميس وريم، ووائل وخيرى، ومحمود وعيسى، وتامر ومعتز، تطلق قذائفها المسمومة ضد الرئيس الذى اختاره الشعب، بما يهين الملايين الذين اختاروه رئيسا لمصر. التحليل النفسى لتلك الشخصية يفسر لنا حالة (الهياج) التى انتابتها، فهى عاشت فى الدور، وصدقت انها (مستشارة) بحق، ونست كيف تبوأت هذا المركز الرفيع فى عهد فاسد، أسندت فيه وزارة القوى العاملة لسيدة لا تحمل سوى الشهادة الابتدائية، وتحت امرتها فى الوزارة مئات من الحاصلين على أعلى الشهادات فوق الجامعية ومن أعرق جامعات العالم، وأيضا أسندت وزارة الاسكان لشخص مفصول من كلية الهندسة ولا يحمل سوى ثانوية عامة، ووزير السياحة كان بمؤهل متوسط، ووزير المالية كان حرامى، ووزير الداخلية كان لصا قاتلا ... وهكذا، أى أنها كانت مفردا فى منظومة فاسدة، أو عضوا فى عصابة إجرامية نشاطها هو نهب ثروات شعب من أعرق شعوب الدنيا. تناست الفيل دى مارشال حقيقتها، وحقيقة العهد الفاسد الذى خرجت من رحمه وصنعها بيده النجسة، فصدقت نفسها، ورفضت قبول الواقع الجديد، وتصورت أن حنجرة الزند بقوة المليون وات، وميكروفونات فضائيات الفلول، عنصر قوة يمكن أن يحقق لها ما تحلم به، وتناست أن النظام الفاسد الذى صنعها قد سقط بكل بجبروته أمام الشعب، أسقطت الشعب من اعتباراتها، وتناست أن هذا الشعب هو الذى اختار ممثليه فى البرلمان، وهو نفسه الذى اختار رئيسه، وهو الذى وافق على الدستور الذى بموجبه طردت (وصيفة سوزان) من المحكمة الدستورية، وأسقطت من فوق عرشها الذى اعتلته دون سند من القانون، بل وتتكلم ليل نهار عن (دولة القانون)، وتريد أن تتحدى الشعب، لأنها مثل كثيرين عميت بصائرهم وظنوا أن الشعب هم هؤلاء القلة التى التصقت بشاشات التليفزيون كالحشرات، يثرثرون ليلا ونهارا. ياست تهانى: دولة القانون انهارت منذ جلس أمثالك على منصة القضاء، وانتهت منذ اقتصر القضاء على عائلات من خلال سياسة التوريث الملعونة، ومنذ ترك القضاة منصاتهم ونزلوا لميدان السياسة، ومنذ عقدوا التحالفات مع الأحزاب والجبهات والجمعيات والمراكز ......الخ، ومنذ مارسوا الاضرابات والاعتصامات، وكنا فى السابق نراهم فوق البشر، كالملائكة الذين لا نراهم بأعيننا، أصبحوا الآن كنجوم السينما يشار إليهم فى الشوارع والأسواق، من الصبية والأطفال، من الصغار والكبار، مثلما يشار لتامر حسنى وروبى، خاصة الغضنفر الذى يعيد أمجاد صلاح منصور فى رائعة صلاح أبو سيف "الزوجة الثانية"، متعاميا متجاهلا أن مصر بعد الثورة أبدا لن يسرقها أحد، وسوف تعلو فوق كل أفاك وزنيم. [email protected]