للمؤرخ الإسلامي محمود إسماعيل أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الأداب جامعة عين شمس إسهامات فكرية بارزة كشفت كثيرا عن المسكوت عنه في التراث، من خلال مجموعة من الكتب التي حركت المياة الراكدة وأثارت الكثير من القضايا الخلافية تذكر فيها "الحركات السرية في الإسلام" و "الفكر الإسلامي الحديث بين السلفين والمجددين" و "في نقد حوار المشرق والمغرب" و "إشكالية المنهج في دارسة التراث" و "سيسولوجيا التاريخ الإسلامي" [ وفي هذا الحوار يفتح د. محمود إسماعيل النار على من يروجون لفكرة الدولة الدينية من خلال عرض متأن لإخطارها بالأدلة والراهين التاريخية. تثار في اللحظة الراهنة مجموعة من التساؤلات الشائكة حول فكرة الدولة الدينية ومدى خطورتها على الواقع المصري، كيف ترى هذه اللحظة من وجهة نظر مؤرخ إسلامي؟ أولا: إثارة موضوع الدولة الدينية ليست وليدة اللحظة وإنما هي تشكل حجر الزاوية في التصور السلفي عن الدولة. إذ يجمع السلفيون إبتداء بالوهابين والسونسين والمهديين، وإنتهاء بجماعات الإسلام السياسي على النموذج الدولة "الثيوقراطية" الدينية وإن إختلفوا حول نموذجها. فالحركات السلفية التقليدية السابقة تجد المثال في حكومة الرسول وعصر الراشدين بإعتبار هذا العصر يقدم النموذج والمثال، بينما تلح تيارات الإسلام المعاصر على النموذج الإسلامي الذي يجمع بين الخلافة والسلطة تحت تأثر نجاحات العثمانين في إسقاط القسطنطنية، حكم التوغل في البلقان وعندنا أن التاريخ العياني يؤكد خرافة مفهوم "الدولة الدينية" أو بالأحرى وجود النموذج الإسلامي خاص وله خصائصه التي تميزه عن النظم السابقة واللاحقة، فبالرجوع إلى التاريخ نجد أنه في عصر الرسول "صلى الله عليه وآله وسلم" لم تتمثل صورة الدولة بالمعنى المفهوم للدولة من حيث وجود نظم ومؤسسات وحدودثابتة. ولم يتحقق ذلك في عصر الرسول، لا شيء إلا لأن النموذج دولة المدنية شهد تغيرات كثيرة بل لم تستمر هذه الحكومات إلا نحو سنوات عشر. كان الرسول "صلى الله عليه وآله وسلم" يعتمد في تشريعه على الوحي وكان الوحي بطبيعته متجددا ناسخا لبعض الأحكام فمثلا كان موقف الرسول "عليه السلام" من يهود المدينة لا يتسم بالثبات. ولم يتخذ سياسة موحدة في التعامل مع هذه القبائل اليهودية "بني قينقعاع" و "بني النضير" و "بني قريظة" كما إنتفت بالمرة وجود أية مؤسسات أو دواونة، إذا كانت الأمور من البساطة بحيث كان يعالجها الرسول "عليه السلام" مباشرة، أو يعهد إلى بعض الصحابة بتنفيذ بعض المهام. كما كانت حدود الدولة متغيرة، فقتصرت في البداية على المدينة ثم مكة والطائف والحجاز، ثم بقية شبة الجزيرة العربية. وإذا حاولنا إستخلاص بعض القواعد العامة فتتلخص فيما يلي: أولا: بتغير الأحكام بتغير المعطيات والظروف. ثانيا: كان الرسول بحكمته يتصرف في تصريف بعض الأمور. ثالثا: كان نظام الحكم بوجه عام أشبه ما يكون بالنظام "الكونفدرالي" إذ آتاح الرسول لرؤساه القبائل بعد إسلامهم في شبه الجزيرة العربية ممارسة الحكم شريطة أن يقوموا بدفع الألتزامات المالية، كما ننبه إلى أن الرسول "عليه السلام" كان قد إعتمد كثيرا من التشريعات التي كانت موجودة في الجاهلية، بما يعني عدم وجود نظام إسلامي ثابت وخاص ومميز. في العصر الرشيدي كان الصراع حول "الخلافة" في إجتماع الشقيقة" بين المهاجرين والأنصار صراعا دنيويا صرفا لا علاقة له بالإسلام بقليل أو كثير لا لشيء إلا لأن القرآن الكريم، فيما يتعلق بالحكم طرح مبدأ ولم يطرح نظاما، المبدأ هو مبدأ الشورى. بل إن النصوص التي ورد فيها هذا المبدأ أنه أمر المسلمين "وأمرهم شورى بينهم". ولم يوجد نظام بعينه ثابت أيضا في تولي الخلفاء الأربعة. وفي كل الأحوال كانت الغلبة هي العامل الفاعل في حسم الصراع. فتحت تأثير قوة "قريش" إحتكرت الخلافة وهو أمر في حد ذاته لا يقره الإسلام، وتولي أبو بكر لغلبة المهاجرين على الأنصار. وخلال الصراع الذي دار حول المسألة جرت مناورات دنيوية قحة ومساومات إلى أن إنتهت بحسم الحكم لصالح قريش. كما نعلم أن أبا بكر إختار عمر وأن عمر إتبع إسلوبا جديدا في مجلس مصغر للشورى شهد أيضا مناورات سياسية، تمت لصالح الأرستقراطية الثيوقراطية وبعد بيعه على تنازل بنفسه عنها عندما تفجر الصراع بينه وبين معاوية. نستخلص من ذلك أن الخلفاء الأربعة كانوا من قريش وأنهم تولوا بطرف مختلفة. وحيث وضع عمر المؤسسات الأولى للدولة، لم يفعل أكثر من نقل النظم التي كانت موجودة عند الروم أو الفرس، فالسؤال هو : أين تلك الخصوصية المزعومة لنظام إسلامي في الحكم؟ منذ العصر الأموي وحتى العصر المملوكي كانت الحكومة الإسلامية، إما مدعية الطابع الديني، وإما حكومات للعسكر المتغلب، بمعنى أن قانون الغلبة يشكل العامل الحاسم في صياغة نظام الحكم. أخيرا: إن إكتمال مؤسسات الدولة منذ العصر العباسي الأول فقد جرى نقلا عن النظم الفارسية، كما أصبح نظام الوراثة بمثابة الأمر الثابت في كل النظم التي توالت على دار الإسلام منذ العصر الأموي فأين ذلك كله من مفهوم "الشورى الإسلامي". [أحاديث موضوعة] هناك حديث يستدل به الكثيرون حول فكرة الخلافة بعد الرسول "صلى الله عليه وآله وسلم" وهو "الخلافة بعدي ثلاثون عاما ثم تكون ملكا عضوضا"، ولكن الحال كان غير ذلك، فقبل إكتمال هذه الثلاثون وجد بداية حكم عثمان وأثنائه، نشأ ما يمكن أن يسمى بالصراع السياسي الذي يمتد خيطه السميك والقاتل حتى الآن، فما تفسيرك لذلك؟ أرى أولا : أن نبوءة الرسول "صلى الله عليه وآله وسلم" لم تتحقق فهذا يعني بداهة أن الحديث "موضوع" فهو يتنافى مع حرص الرسول على أن لا يعين خليفة له، وأن لا يحدد نظاما ثابتا بعينه لحكمته. قضية الحكم قضية دنيوية بحته وتخضع للمتغيرات فالإسلام قد أقر المبدأ، وهو "الشورى" أما كيف تتحقق فالأساليب كثيرة وتخضع لمعطيات الزمان والمكان. أما ما جرى إبان حكومة "عثمان رضي الله عنه" فكن حربا أهلية، إختلف فيها الصحابة بل تسابوا وتلاعنوا، ونقض بعضهم العهود كطلحة والزبير بعد مباعية "علي" لا لشيء إلا لطمعهم في الحكم. ويكشف كتاب "الإمامة والسياسة" للإمام ابن قتيبة عدد حقيقة ما جرى، يثبت أنه صراع دموي من أجل السلطة ليس إلا، ولا علاقة له بالإسلام من قريب أو بعيد، فإذا كان الصراع دينيا حقا لما جرى، وكانت الثورة على "عثما" كرد فعل السياسة غير إسلامية، خصوصا بعد تقدمه في العمر وإناطة "مروان ابن الحكم بالسلطة الحقيقية فكان "أول من حمى الحمى" وعين معظم الولاه من بني جلدته، وإعتبر الحكم "قميصانا ألبسه الله إياه" بما يتعارض شرعيا من مبدأ الشورى الإسلامي. فهل هذا هو النموذج المثالي لنظام إسلامي له خصوصيته؟ [الواقع السياسي] إذا كان هذا هو الواقع السياسي بالفعل فماذا عن الفكر السياسي بعد ذلك والذي تجلى من خلال مجموعة حاولت التقعيد لنظام الحكم؟ هذا السؤال على جانب كبير من الأهمية، لأنه يؤكد حقيقة تعدد وتنوع الصيغ السياسية التي طرحت إلى حد التناقض فالشيعة مثلا لا يقرون مبدأ "الإختيار" البتة. ولذلك عرفوا بأنهم "أهل النص والتعيين" وفي ذلك فيما نرى تعارضا مع مبدأ الشورى. وعندي أن "الخوارج" في مفهومهم عن الحكم كانوا أكثر الفرق إلتزاما لمبدأ الشورى كما طرحه القرآن. إذ يرون أن الخلافة ليست حكرا على قريش وآل البيت وإنما هي متاحة لأي مسلم ببغض النظر عن إنتمائه أو عرقه. أما المعتزلة فقد إكتفوا بشرط واحد وهو أن يكون الإمام عادلا. أما المرجئة في بداية أمرهم فكانوا مبررين للنظام القائم، حيث إعترفوا به وأرجئوا تقديره إلى الله سبحانه وتعالى، أما بعد تحولهم إلى حزب ثوري فقد تأثروا بالمعتزلة والخوارج في فكرهم السياسي فألحوا على مبدأ الشورى والعدل.