ليس للمواطن الفقير أن يحلم بتناول اللحم إلا إحسانا وصدقة، وليس له أن يفكر فى شراء الضأن على وجه الخصوص، فى عيد الأضحى، بعد أن وصل سعر الكيلوجرام، إلى 85 جنيها، ما يعنى أن «طبق الفتة» بالخل والثوم، لن يكون متاحا للجميع. العيد ليس فرحة بالنسبة للجميع، كما تقول الأغنية الشهيرة، فالغلبان ليس من حقه فيما يبدو أن يفرح، وبعدما استنزفته «ملابس العيد»، وعقب اللجوء إلى الاقتراض من هذا وذاك، لرسم الفرحة على شفاه صغاره، تبدأ معركته مع اللحمة.. وهى معركة خاسرة مبدئيا، بسبب الأسعار المتوحشة، التى تدفعه لأن يكتفى بعينيه البصيرتين ويديه القصيرتين المغلولتين. لحوم فاسدة هنا.. وتيارات سياسية تبيع اللحوم بنصف قيمتها، لذوى الواسطة.. وشوادر منصوبة لتوزيع الصدقات .. وقرب قرب .. بدأ المهرجان. «الصباح» ترصد الصورة التفصيلية «لدراما اللحوم» التى تم الإعلان عن فعالياتها فى كل شارع مصرى. محلات الجزارة راكدة.. والناس لم تعد تشترى مثلما كانت، وعدد كبير ممن كانوا ينحرون أضحيات امتنعوا لوصول سعر الأضاحى إلى ما يتراوح من 1500 إلى 2000 جنيه، والرقابة كالعادة.. أذن من طين وأخرى من عجين، والمسئولون ليس على ألسنتهم إلا عبارة: «كله تمام.. والأسواق منضبطة، وسنضرب بيد من حديد على كل متلاعب بالأسعار، والسلع متوفرة، ونحن نمارس عملنا لصالح المواطن الفقير».. والمواطن الفقير يفوض أمره إلى الله فى المسئولين والتجار، ويقرر أن يكون العيد من دون لحمة! هذا ما يؤكده جابر عبدالرحيم، موظف على المعاش: اضطررت لعمل جمعية صغرى بقيمة 350 جنيها لشراء لحمة العيد، لأن أبنائى وأحفادى يؤدون الصلاة ثم يفطرون عندى فى البيت، وهذه عادة لا يمكننى قطعها.. موضحا أن هذا المبلغ بالكاد يكفى لشراء أربعة كيلوجرامات من الضأن، وبالكاد يكفى لوجبة الإفطار التى يحضرها أبنائى الأربعة وزوجاتهم وسبعة أحفاد. ويقول: الأسعار ارتفعت بوحشية، وفى ظل عدم قدرتى على شراء كميات أكبر، أكتفى بتناول قطعة صغيرة للغاية، والقليل من الفتة، متحججا لأبنائى حينما يستغربون من انخفاض شهيتى، بأنى كبرت فى السن، واللحم يضرنى.. ثم يضيف ضاحكاً: هذا مبرر سخيف، فأمثالنا لا يتذوقون طعم اللحم إلا نادرا، وكلما نقرأ فى الصحف أو نسمع فى وسائل الإعلام عن مضار اللحم، نشعر بالرغبة فى البكاء على أوضاعنا. ويرى طلعت منصور «سائق» أن الكلام الذى يبالغ المسئولون فى توزيعه حول الرقابة المشددة وضبط الأسواق مجرد خرافات وأساطير لا قيمة لها، فالتجار يفرضون شروطهم، والفقير عليه أن يرضخ أو ينتظر الصدقات أو يشترى قطعا دهنها أكثر من لحمها، من أردأ اللحوم، حتى يعد طبق الفتة الشهير، ويؤيده عماد صبحى، بائع جوال، قائلا: ارتفع سعر الكندوز إلى 70 جنيها، والبتلو إلى 80 والضأن كذلك، ما يرغم الفقير على كبح جماحه وعدم المرور بجوار الجزارين، فيما يؤكد سيد فكرى، تاجر خردوات، أن أسعار اللحوم المستوردة ارتفعت لما فوق 45 جنيها للكيلو. وتقول سيدة إسماعيل، ربة منزل: «إن بعض الجيران ينحرون أضحيات لكن المشكلة أن الأولاد يعودون من الصلاة كى يفطروا وفى هذا الوقت يكون المحسنون لم ينتهوا من الذبح والتوزيع»، ما يعنى أن عليها أن تشترى، وتنتظر الإحسان من أولى الإحسان. ويقول إسماعيل جمعة، بواب: «لا يعنينى أن أتناول اللحم ولا أهتم بمن سيحسن إلىّ، فصحتى ليست على ما يرام، وأعانى من أمراض فى الجهاز الهضمى، وساعات بيكون المرض من رحمة ربنا». أما فوزية مبروك، ربة منزل، فتقول: إن ارتفاع سعر اللحوم ليس يزعجها، فهى أرملة، وأبناؤها فى الخليج بحثا عن الرزق، ولا أحد يطرق بابها، وبالتالى لا تعد طبق الفتة، وليست مهتمة بأن تعده. أما الجزارون المتهمون بأنهم وراء رفع الأسعار فيدافعون عن أنفسهم، ويرفضون الاتهام لأن الأسعار ارتفعت على الجميع، فتاجر الماشية يعانى من ارتفاع أسعار الأعلاف، وتاجر الأعلاف يعانى من ارتفاع أسعار النقل والتخزين، والسائق يعانى من ارتفاع أسعار السولار.. وهكذا يدور الجميع فى دوائر مغلقة. ويقول عبدالودود المنصورى، جزار: إن الدولة إذا أرادت محاربة الغلاء، فعليها أن تحاربه من المصدر، فالأعلاف أصبحت غالية الثمن، ومربو المواشى يريدون تحقيق هامش ربح، والجزار يعانى من ارتفاع الأسعار، والعمال لديه يريدون رواتب أعلى لأن الحياة لم تعد سهلة، والكهرباء سعرها ارتفع، وفى النهاية لا يتهمون سوى الجزار.. «وهو إللى لازم يشيل الجريمة عشان كله يطلع براءة». ويختتم كلامه قائلا: «كل الحلول التى اتخذتها الدولة لعلاج المشكلة مضحكة، فاستيراد اللحوم من الخارج ليس حلا، لأن الناس يا تاكل لحمة بلدى.. يا بلاش أحسن»، موضحا «الحكومة متهمة أولا وأخيرا وكلنا ضحايا». هذا هو لسان حال الجزارين وبائعى الماشية الذين منوا أنفسهم بمكاسب كبيرة مع اقتراب عيد الأضحى المبارك ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهى الأنفس ..فها هو العيد يقترب والسوق يعانى من ركود شديد نتيجة ارتفاع الأسعار وإحجام الكثير عن شراء الأضاحى وعزوف البعض الآخر عن شراء اللحوم. التجار من جانبهم وجهوا أصابع الاتهام للحكومة والدكتور مرسى الذى وعد مرارا وتكرارا بكبح جماح الأسعار إلا أن ذلك لم يحدث حتى الآن ومازالت الأسعار تواصل ارتفاعها الجنونى وتلهب جيوب المصريين. ففى الوقت التى تستعد فيه محافظات مصر من أقصاها إلى أدناها لاستقبال عيد الأضحى المبارك بتوفير السلع الاستهلاكية والتموينية للمواطنين واحتياجات البيت المصرى كافة وتكثيف الجهود لضبط الأسواق ومراقبة الأسعار تتأهب الأسر المصرية لاستقبال العيد الكبير كل على حسب إمكانياته، فمنهم من يستقبل العيد بمظاهره الكاملة، ومنهم من لا تكتمل فرحتهم به لتدنى حالتهم الاجتماعية والمادية.