مصورة بريطانية تؤرخ الفن الشعبى الرابط بين الرسم وزيارة بيت الله الحرام باحث أمريكى يعتبرها من علامات التعبير عن «الامتياز الطبقى» رغم أن الفقراء أكثر حرصًا عليها من الأغنياء بدأت الرياح المباركة لشهر ذى الحجة فى الهبوب على مسلمى العالم، الذين يتطلعون شوقًا لزيارة «النبى الغالى »، ورغم أن كثيرين لا يتمكنون من تحقيق أمنيتهم بأداء شعائر الحج لأسباب مختلفة، إلا أن المصريين أبدعوا بطريقتهم الخاصة زيارة افتراضية سجلوها على جدران منازلهم، لتكون احتفا لً بمن أسعده حظه بالزيارة، وتذكرة لمن يهفو قلبه كلما شاهد جداريات الحج المنتشرة فى ربوع مصر. كثيرون منا زاروا الريف أو نشأوا فيه، وشاهدوا فى مثل هذه الأيام رسومات الحج التى تزين واجهات المنازل، لكن جميعنا مر عليها مرور الكرام ولم يلتفت إلى أنها أحد كنوز الفن الشعبى، إلا أن المصورة «آن باركر» التى جاءت من إحدى مقاطعات إنجلترا «إلى مصر عام 1985، وقامت بتصوير وجمع لوحات الحج من مختلف محافظات مصر، استطاعت أن تقتنى كنزًا ثمينًا قام بتحريره «أفون نيل»، المتخصص فى فن التراث الشعبى، وهو كتاب «رسومات الحج»، الذى ينتمى إلى فئة الكتب المصورة. فى منتصف النهار عندما تكون الشمس فى كبد السماء، تكون درجات الحرارة فى أشد قسوتها، فتجد المنازل تفتح أبوابها على مصراعيها لتمنح الظلال للعابرين، هكذا هو صعيد مصر المفعم بالحياة والموحى بالفن، الذى دائمًا ما ينهل منه كل مبدع وكل غريب. كلمات متفرقة أرادت أن تقولها المصورة «آن باركر» خلال صفحات كتاب «رسومات الحج» والتى لفتت أنظار كل المؤرخين المصريين المهتمين بتأريخ التراث الشعبى إلى ضرورة تأريخ هذا الفن وإظهاره وتوضيح جمالياته والربط بينه وبين اللوحات والبيئة المصرية بتناغمها وتنوعها الثقافى والاجتماعى. ينتمى الكتاب إلى فئة الكتب المصورة وهو من تحرير أفون نيل وتصوير آن بارك وترجمة وتعليق حسن عبد ربه المصرى. والمصورة صاحبة الكتاب حازت جوائز عديدة بينما تخصص زوجها فى الفنون الشعبية وشارك فى تحرير الكثير من الكتب، أما المترجم فهو استشارى إعلامى مصرى يعمل فى إنجلترا. يتناول الكتاب فن التعبير الشعبى عن رحلة الحج المقدسة فى مصر، كاشفًا عبر الدلالات الدامغة عن العلاقة بين التعبير الفنى والروح الدينية المستندة على معطيات اجتماعية وبيئية وإنثروبولوجية، أى دراسة العلاقات بين اللغة والثقافة والعلاقات بين البيولوجيا البشرية والإدراك واللغة والتعبير عنها. فعلى الرغم من أن الحج إحدى فرائض الإسلام إلا أنه يمثل الفريضة الوحيدة التى يسعى الفنان الشعبى إلى تجسيدها والاحتفاء بها، فلم نر يومًا أن أحدًا رسم واجهة البيت لأنه يؤدى فريضة الزكاة أو الصلاة. وقد يكون الاحتفاء المصرى بفريضة الصوم مقاربًا لفريضة الحج، إلا أن فريضة الحج لها خصوصية كبيرة، وقد يكون الاحتفاء الشعبى بها، كما أشار روبرت ايه فيرنا، الأستاذ بجامعة تكساس الأمريكية، فى مقدمته، فيقول إن الحج، بالإضافة إلى كونه فريضة دينية، يعد إحدى علامات التعبير عن الامتياز الطبقى أو الأبهة الاجتماعية أو المكانة خاصة فى الأوساط التقليدية، التى تستند فيها المكانة إلى امتيازات من هذا النوع، حسب ما ذكره، إلا أن الحقيقة تكمن فى أن الاحتفاء بالحج يكون للمكانة الدينية خاصة أن هناك عددًا كبيرًا من فقراء مصر يحرصون أكثر من الأغنياء على أداء فريضة الحج، ويدخرون المال لفترات طويلة من أجل قضاء هذه الفريضة. يقول أفون نيل، المتخصص فى الفنون الشعبية العالمية: «لا يقطع المسافرون داخل مصر مسافات طويلة دون أن يصادفوا فى طريقهم منازل تغطى جدرانها برسومات بسيطة غاية فى الإبداع، وتزينها خطوط لكتابات عربية غالية فى الإتقان، هذه هى منازل الحجاج أو مساكن الأتقياء من المسلمين الذين سافروا إلى مكةالمكرمة، الأعداد الكبيرة من هذه الدور تزين سنويًا بالصور المرسومة احتفاء بعودة الحجاج، وهذه اللوحات لا تعد من قبيل التذكير بالرحلة المقدسة فقط، بل تعكس نماذج ملونة من فن الرسم الشعبى الحديث الأكثر شهرة فى عموم محافظات مصر كلها». ما قبل الحج فى كلمة «آن باركر» تقول «لقد بُهرت بمرأى هذا الجمال البسيط المفعم بالحياة، والذى يتحدى الزمن فوق حائط بيت من بيوت قرى الريف المصرى النائية. وبعدما تعرفت على القوة الدافعة التى تقف وراء هذه الرسومات، لم أقدر على مقاومة نداء تعريف العالم الخارجى بها. لقد اقتنعت بأنها فن تقليدى شعبى له تاريخ استثنائى». كانت هذا المشهد فى العام 1985 حينما كانت تستقل القطار من القاهرة إلى أسوان. وقد تناول الكتاب مبدعى رسومات الحج، وصنفهم إلى فريقين، فريق منهم يعمل رسامًا طوال الوقت، وفريق آخر لديه أعمال منتظمة ويقومون برسم الجداريات فى مواسم الحج فقط بهدف زيادة الدخل فى مواسم بعينها. ويحتكر الرجال فن رسم الحج، وغالبًا ما يقوم ناظر المدرسة بوضع اسمه على الجدارية الموجودة فى القرية بعد الانتهاء منها حسب إشارة الكتاب. وتتراوح أعمار الرسامين ما بين 25 إلى 50 عامًا، وقلة منهم فقط أتيح لهم دراسة أصول الرسم، بينما تنتمى الغالبية العظمى إلى نادى هواة الرسم. ويسخر الفنانون فترات تتراوح بين أسبوع واحد و3 أسابيع للوفاء بتعهداتهم، وهى الأيام التى تسبق عيد الأضحى حيث يقومون برسم الجداريات على الحوائط المتفق عليها، ومنهم من يقوم ببعض الرسومات داخل المنزل، وغالبًا ما تستغرق هذه الجداريات نحو 10 أيام، ولا يكون المقابل المادى كثيرًا، نظرًا للوحات الأخرى فراسمى فن الحج تكون لديهم حالة من الروحانية أيضًا التى تجعلهم يتغاضون عن كثرة المال فى سبيل وضع اسمهم على الجداريات لتكون محل تفاخر عبر السنوات. وكانت البداية من صعيد مصر حيث بدأ فنانو الصعيد الهواة هذا الفن الشعبى الذى انتقل إلى القاهرةوالمحافظات الأخرى. وجمعت باركر عددًا من الصور المفعمة بالإبداع، وهى جداريات نقشت على جدران البيوت فشكلت لوحات دلالية عكست الكثير من الجوانب الروحية والفنية لدى الطبقات المصرية بمختلف تنوعها سواء فى الحضر أو الريف. وقد تكون اللوحة التى افتتحت بها الكتاب هى إحدى الجداريات التى رسمت على واجهة أحد المنازل بالقاهرة، تعكس مدى التناغم بين الرؤية الإبداعية والروحية لسكان الريف والقاهرة. فعلى الرغم من اختلاف طراز المبانى إلا أن الروحية فى الرسم ساهمت فى تشابه الرؤية، لكنها فى هذه الصورة تشير إلى دقة الرسام فى التعبير عن رحلة الحج، فتقديمه للجمال فى يمين الصورة ومن ثم القطار بعدها بالتوازى مع السفن يؤكد على التسلسل التاريخ للرحلة، واستخدام أدوات السفر إلى الكعبة الشريفة. الجدارية الثانية الواقفون على باب حديقتهم الخيالية التى تعتليها الكعبة المشرفة والطائفين بها صورة لجدارية بصعيد مصر، تعكس مدى قيمة وأهمية فريضة الحج لدى هذه الطبقة، التى تتباهى لسنوات طويلة بأنها أدت فريضة عظيمة من فرائض الله، وكأنها تريد أن تخلد هذه اللحظة لتنتشى بها قلوب الأجيال التى تأتى من بعدهم، أو أن تظل قلوبهم مفعمة بالبهجة كلما نظروا إلى تلك الجداريات المؤرخة، حتى أنهم حرصوا أيضًا على التصوير أمام تلك الجدارية المزهرة النى لم تحظ بكثير من شعائر الحج سوى الكعبة والدابة التى تعبر عن أهميتها وارتباطها كونها وسيلة انتقال إلى مكان لأداء الفريضة، إلا أنها تعكس كيف يستقبل المصريون فى الريف هذه الفريضة التى تغير مسار حياتهم وتعد الأشجار المثمرة والمزهرة هى أبهى الحالات التى يصل إليها الفلاح بحكم الذى ارتبط بالأرض وبطرح الأشجار والمحاصيل. مسدس وألوان فى هذه الجدارية ذكرت «باركر» أن المصريين بطبيعتهم بارعون فى كل الأشياء لا فى الفن فقط، بل فى اكتساب الأصدقاء والتعاون مع الغير والافتخار بالأشياء التى يقومون بها، حتى تلك الجداريات التى يظن البعض أنها مجرد رسومات، ففى الصورة حرص الرجل وزوجته على الوقوف أمام المنزل وقت التقاط «باركر» للجدارية. والمتمعن فى الصورة يجد التناغم الكبير بين ألوان ملابس الرجل والزوجة وألوان الجارية والآيات القرآنية المنقوشة على الحائط، أما الرجل الذى يمتطى جواده ويرتدى الجلباب والعمامة البيضاء فهو يعكس مدى قدر العائد من الحج بعد أداء الفريضة، وللون الأبيض دلالة كبيرة أيضًا، فيما يظهر الرجل الآخر الذى بيده «مسدس» ويضرب النار ليعبر عن مدى الاحتفاء بفريضة الحج. حائط فارغ كانت هذه الجدارية مجرد حائط فارغ من أى شىء، ثم تحول لجدارية متناغمة ألوانها متقاربة فى تفاصيلها، معبرة عن الحياة المصرية فى الريف والفن الشعبى وكذلك فريضة الحج المقدسة. هذه واجهة البيت الذى يتضمن ورشة أوبرا عايدة لتشكيل الرخام، الذى استطاع الفنان محمد المالك أن يحول الحائط إلى منظر جاذب للنظر بشكل كبير من خلال قدرته على جمع تلك التفاصيل الدقيقة والبسيطة مكثفة المشاهد كثيرة الدلالة على جانبى باب المنزل. طائرة وفى هذه الجدارية المرسومة على واجهة بيت بالطوب النىء، والتى برع فيها الرسام باستخدام اللون الأبيض ورسم الطائرة التى قد يكون استخدمها الحاج وكذلك تأريخ العام وهو 1984، كما رسم الحاج بصورته الطبيعية وربما كانت الزهريتان معبرتين بشكل كبير عن سعادة الحاج بهذه المناسبة. كسوة الكعبة هذه الجدارية للقافلة المصرية التى كانت ترسل بكسوة الكعبة إلى السعودية، وهو الغطاء الهائل الأسود المطرز بالآيات القرآنية المنسوجة من خيوط من ذهب، حيث كانت مصر تجهزها وترسلها كهدية إلى السعودية، وقد استمر هذا الأمر حتى عام 1926 حتى أثير جدل عنيف بشأن دخول القوات المسلحة التى كانت ترافق القافلة إلى المدينة، وأوقفت عملية إرسال الكسوة من مصر. وينتقل الكتاب المصور بعد ذلك إلى الجزء الثانى الذى تعبر الجداريات المصورة فيه عن أداء مناسك الحج والتى برع فيها الرسامون على جدران الحوائط أيضًا وتناولت هذه الجداريات صور الكعبة والطواف حولها وإبراز الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتعلقة بالحج وقدر المسجد الحرام وبعض الطقوس. جبل عرفات الوقوف على عرفات هو ذروة الحج عندما يقف نحو مليونى حاج معًا فى صعيد واحد أمام جبل الرحمة فى عرفات، فى ذات المكان الذى وقف فيه رسول الله وألقى خطبة الوداع، وفى الجدارية المرسومة على إحدى واجهات المنازل، نشاهد رجلًا يقف على الجبل يرتدى ثياب الإحرام ويظهر وحيدًا على الجبل، وهنا قصد الرسام أن يكون هذا الرجل وحيدًا فى إشارة إلى حالة الروحانية التى يصل إليها الحاج فى هذا المكان والذى يشعر وكأنه يقف أمام الله وحده فى حالة من الترجى وطلب المغفرة. تتتالى بعد ذلك الصور المعبرة عن باقى مناسك الحج المتمثلة فى العودة من الحج وتقديم الذبائح، وقد قدمت المصورة عددًا كبيرًا من الصور التى تعكس المظاهر المختلفة بأنحاء مصر من الصعيد حتى الإسكندرية مؤكدة بذلك على أن الاحتفاء المصرى بمظاهر الحج والتناول الشعبى من خلال تلك الجداريات هو أعظم ما تناول للعرب فى الدول الإسلامية. العودة للوطن العودة للوطن تناولها الكتاب من خلال عدد من الجداريات المبهجة التى تعكس الحالة الروحانية والإنسانية التى يصل لها الحاج بعد أداء فريضة الحج، وكيف يستقبله أهل القرية أو المنطقة مؤكدة على أن الفنانين الشعبيين كانوا حريصين على تجسيد تلك اللحظات ببراعة تتناسب مع مرحلتيها وأجوائها. كما تجدر الإشارة إلى أن الكتاب تناول المراحل المختلفة للرحلة المقدسة منذ قديم الأزل عبر الإبل والسفن وحتى التطور الذى وصلنا إليه الآن كما جسدتها الجداريات على الحوائط.