تستمر إشراقات شمس الألفية الثالثة بعد الميلاد وتستمر الحياة بعد الألف ليلة وليلة ويستمر حديث السحر والشعِر الذى يصل الماضى بالحاضر دائمًا أسترجع ما كتبه الجاحظ فى القرن الثالث من الهجرة عندما قال «إنه لولا ما أودعت لنا الأوائل فى كتبها، وخلدت من عجيب حكمتها، ودونت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بها ما غاب لنَّا، وفتحنا بها كل مستغلق علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم ندركه إلا به، حسن حظنا من الحكمة، وضعف سببنا إلى المعرفة». أما فى تاريخنا المعاصر، فقد أكد الكثير من الأدباء على حكمة الكتابة التى تصل الماضى بالحاضر وأستحضر هنا ما كتبه أستاذى الدكتور جابر عصفور فى كتابه «زمن القص: شعر الدنيا الحديثة» عندما قال: «هذه الحكمة المتجددة هى حكمة الكتابة التى تصل الماضى بالحاضر، والعرب بالعجم، والمسلم بغير المسلم فتهدم حواجز العرق والجنس واللسان والعقيدة وتجمع من التدابير العجيبة والعلوم الغريبة والتجارب الحكيمة ما يصل القرون الماضية والأمم البائدة بالقرون الحالية والأمم الآتية، موصلة فى الإنسان انتماءه إلى المعمورة الإنسانية كلها فى أحلامها وأشواقها، مؤكدة أن حاجة الغائب موصولة بحاجة الشاهد؛ لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى واحتياج الأقصى إلى معرفة الأدنى، فذلك هو طبع البشرية وفطرة الإنسانية التى تؤكدها أمثولة شهرزاد فيما تؤكده من دلالات». وفى إطار الإعداد لمقال يهدف لإلقاء الضوء على البعد الثقافى فى العلاقات بين الشرق والغرب، أتاحت لى الظروف الاطلاع على بعض الوثائق التى سردت أهم مجريات الأمور خلال عام 1530م، أى العقد الثالث من القرن السادس عشر. لكن ما إن بدأت الاطلاع على هذه الأوراق، وبين سطورها حتى استشعرت أننى أمام محتوى مثير ومختلف. محتوى يحتاج لتحليل متأن وتدقيق، لكونه يفتح بابًا جديدًا لقراءة ما حدث خلال هذا العام، خصوصًا التلاقى بين الشرق والغرب. وفى أحيان أخرى فهى تسرد أحداثًا تعبر عن التنافسية التى خلقتها هذه الفترة بين القطبين والتى أدت فى بعض الأحيان لنقطة اللا تلاقي. وبما أننى من المهتمين بالشأن الثقافى الدولي، فقد أردت التوقف هنا عند بعض من هذه الحوادث التى بدأت نسبيًا مع عام 1530، وما تلاه من أحداث قد تسهم لحد بعيد فى فهم ما جرى. فهذا العام تحديدًا أعتبر أنه كان عامًا مميزًا وجوهريًا أيضًا بالنسبة للتلاقى المعرفى والتكاشف الأكاديمى الذى حدث فيما بعد بين الحضارات الشرقيةوالغربية. رحلة الشتاء والصيف خلال صيف عام 1530م ساد طقس شديد الحرارة على منطقة شمال إفريقيا التى شهدت تغيرًا كبيرًا فى المشهد الجيوسياسى بعد توسع رقعة الإمبراطورية العثمانية، ودحض آخر سلاطين المماليك طومان باى فى موقعة الريدانية بالديار المصرية. وفى المقابل شهدت أوروبا فصل شتاء قارس البرودة، وتبعه موجات برد قاسية لم تشهدها البلاد من قبل ورياح عتية قادمة من الشمال محملة بالثلوج تسببت فى إصابة البلاد بشلل تام وكبدتها خسائر كبيرة، وزاد الطين بلَّة فيضان مخيف اجتاح الشمال الأوروبي؛ ونتج عنه أضرار جسيمة. هذه الأضرار دمرت العديد من البلدات والقرى فى هولندا. حيث أودى بحياة 120 ألف شخص ليسجله التاريخ كأسوأ فيضان فى تاريخ البشرية. لكن شاءت الأقدار أن يكون هذا الطقس السيئ سببًا فى إنقاذ الإمبراطورية النمساوية لأنه كان درعًا واقيًا أمام الجيوش العثمانية التى لم تعتد على هذه الظروف الميدانية فما كان إلا أن قرر السلطان العثمانى سليمان القانونى التراجع؛ وبالفعل تقهقرت الجيوش ورفع الحصار عن أسوار فيينا. وفى هذه الأجواء المرتبكة بين الشرق والغرب، حلَّت ظاهرة «ثقافية» حديثة بالنسبة لهذا الزمن الذى كانت تصعب فيه الانتقالات ، وهى بدء توافد الرحالة من جميع بلدان أوروبا لدراسة إمبراطوريات الشرق، حتى لو كان فى باطن هذه الرحلات الاستكشافية الثقافية أغراض أخرى فى بواطن القائمين عليها، إذ كانت فى بعض الأحيان محملة بدوافع اقتصادية. بجانب الرغبة فى بعض الأحيان فى نشر المذهب الكاثوليكى هنا وهناك فى بلاد المشرق. و فى عام 1530م، قام البابا جولياس الثانى بإصدار قرار لترجمة القرآن الكريم إلى اللاتينية بل وأسس مطبعة عربية لطباعته فى البندقية. وفى فرنسا، أراد ملك الفرنجة فرنسوا الأول تعزيز مواقفه السياسية المنفتحة على العالم وترسيخ عقيدته حول ضرورة معرفة الآخر، ووجوب مد جسور علمية مع الشرق، فابتكر إشراقة من نوع آخر. إشراقة «ثقافية» جاءت كشعاع منير ودافئ. هذا الشعاع خفف وطأة البرد القارس التى جعلت القلوب منقبضة والأرواح باهتة فى أوروبا فصنع النور وسطع بوهج المعرفة الوافدة من بلاد الشمس. هذه المعرفة كانت فى الأساس نابعة من إيمانه بضرورة معرفة الآخر، ومد جسور علمية مع الشرق. وفى 24 مارس 1529م أقام الملك أول منبر لتدريس اللسان العربية فى الديار الغربية، وحمل اسم ال«الكوليج دى فرنس» والذى لقب ب«هيكل المعارف البشرية» وهو أول مؤسسة أوروبية أدركت بشكل حقيقى أهمية إدراج الدراسات الشرقية فى مناهج التعليم بباريس. ومن بعدها جامعة كامبردج التى أنشأت قسم اللغة العربية فى سنة 1632م ثم جامعة أوكسفورد، إذ تم تكليف إدوارد بوكوك عام 1636 بتدريس اللغة العربية بها. لا تزال مؤسسة ال«كوليج دى فرنس» والتى مازالت من أعظم المؤسسات الأكاديمية وأعرقها تقدم نظاما تعليميا بهذا الاتساع والشمولية حول العالم، إذ يتميز هذا المنهج بالانفتاح على الآخر عن طريق التعرف على لغته، تاريخه والتعرف على عمق حضارته0 ولعلنا هنا نستطيع وفقًا لرؤى معاصرة اعتبار ال«كوليج دى فرنس» سابقة أكاديمية مؤسسية لما نعرفه اليوم باسم «الدبلوماسية الثقافية» ولمنهجية دراسية ترسى مبادئ معرفة الآخر وقبول الاختلاف. فنظامها التعليمى كان دائمًا ما يركز على تدريس اللغات، والآداب المختلفة. مثل: اليونانية، واللاتينية، والعربية، والعبرية، والكلدانية، والسريانية والفارسة، والتركية، والصينية ولغات أخرى كثيرة. بجانب التركيز على دراسة التاريخ، والسلوك، والمنطق، والحقوق، والاقتصاد السياسي، والرياضيات، والفيزياء والكيمياء، والفلك، وغيرها من العلوم. زاد اهتمام الأوروبيين بالشرق بفضل إتقانهم للغاته وحضارته. فضلًا عن دراستهم العميقة لتراثه وخاصة التراث الثقافى لمنطقة وادى النيل. تزايدت وقتها المعرفة بالحضارة المصرية، واتسمت مؤلفات الأوروبيين فى هذه الفترة الزمنية بالعمق لأنهم جابوا الديار المصرية طولًا وعرضًا، بوديانها وجبالها وصحرائها. ولم تكن زيارتهم خاطفة، بل مكث البعض منهم سنوات طويلة. هذه السنوات أعطت لهم فرصة التقدم بمشاريع جديدة كفكرة ربط البحرين «الأحمر والمتوسط» وكذلك إحياء طريق التجارة القديم. أين المستغربون؟ كان عام 1530 نقطة انطلاق حقيقية فى تلاقى الشرق والغرب من خلال منابر العلم والمؤسسات الأكاديمية التى تدرس على يد متخصصين فى الدراسات الشرقية ومنهجية التفكير والبحث والتحليل والمقارنة. كان عدد كبير من هؤلاء المتخصصين ذوى عباءة دبلوماسية إذ كانوا مندوبين لملك الفرنجة فى الشرق. هكذا اشتد هذا التيار الجارف الذى اقتلع كثيرا من المخطوطات والوثائق من بلاد العرب وكذلك مقتنيات ثمينة ومنقولات أثرية ذات قيمة تاريخية بدافع إعداد الدروس وإثراء المناهج بالمعارف. وفى هذا العام أيضًا جرى تأسيس تقليد جديد أصبح متبعًا فيما بعد؛ وهو ضم ركب من العلماء على قوات الجيش خلال الحملات العسكرية خاصة المتجهة نحو بلاد الشرق. فعلماء الحملة الفرنسية لم يقوموا بخطوة ابتكارية مع قدوم نابليون بونابارت إلى مصر، وإنما حذوا بقاعدة تم وضعها مسبقًا بهدف التعرف على الحضارات الشرقية، وجلب وثائقها. وفى كثير من الأحيان أخذ مقتنياتها الأثرية إلى أوروبا. وهنا لابد من إلقاء الضوء على اسم المستشرق «برتلمى دربلو» (1625 م- 1695م) والذى أسندت إليه مهمة ترجمة المخطوطات، والوثائق العربية الواردة من الشرق ويرجع له الفضل بلا شك فى تأليف واحد من أقدم القواميس العربية والذى حمل عنوان المكتبة الشرقية « Bibliothèque Orientale، علمًا أن المستشرق أنطوان جالان ثد أكمله بعد وفاة برتلمي. ولعل اسم أنطوان جالان Antoine Galland والذى كان مندوبًا للملك فى الشرق، هو الأشهر وذلك لأنه ارتبط بحكايات «ألف ليلة وليلة» فهو أول من ترجمها إلى اللغة الفرنسية، وهذا الإنجاز الأدبى قد فتح آفاقًا جديدة فى عصر تميز بالإقبال على فهم الآخر، و مد جسور الفكر بين العرب وأوروبا. لا شك أن ترجمة «ألف ليلة وليلة» كانت فاتحة لتراجم القصص الشرقية مثل: «أهل الكهف» و«الحسناء الراقدة فى الغاب» ونستطيع أيضًا أن نؤكد أن هذه الترجمة قد شكلَّت خلفية لروابط الفكر، والروح، بين الشرق والغرب. كما أشار الشاعر اللبنانى إلياس أبو شبكة فى كتابه لروابط الفكر والروح بين العرب والفرنجة. إلا أن الأوروبيين كانوا أحذق من العرب على حد قول أبو شبكة من ناحية ترتيب الأساطير والقصص القادمة من الشرق، فالخيال العربى فى ذلك الوقت لم يكن منظمًا. لذلك أخذ الفرنجة هذا الخيال ونظموه بعد أن وسعوا أجواءه، ورحبوا نطاقه، و إذا بهم يخرجوا لنا قصصنا وحكاياتنا بحلل غريبة من الكنايات والرموز. لذلك أنا دائمًا أتساءل وأقول: متى يمكن أن يكون لدينا علماء يعرفون بال«مستغربين» على غرار «المستشرقين» ويأتينى هنا ذكر هذه المقولة: «فين الأصل؟ وليه الصورة؟ رد يا عربى على الأسطورة!»