السياسة كلعبة البازل الشهيرة. هناك قطع صغيرة متناثرة على الطاولة. عند جمعها بجوار بعضها البعض تتبين لك صورة كبيرة واضحة. أشياء صغيرة تحدث هذه الأيام فى مصر تبدو بعيدة عن بعضها البعض. لكن حقيقة الأمر هى تشير إلى تحركات خطيرة. وفى الأيام السابقة تمت بعض التحركات تبدو غير مفهومة. أولها عند فضح تجسس الأمريكان على قادة دول أوروبا، وبالتحديد على مستشارة ألمانيا، وبعد إعلان الفضيحة قامت صحيفة النيويورك تايمز بنشر مقالة خصصت للهجوم على اللواء فريد التهامى مدير المخابرات العامة. بعدها بأيام قام جون كيرى، وزير الخارجية الأمريكى، بزيارة مصر قبل الذهاب إلى الرياض، ثم جاءت محاكمة مرسى. هى أشياء تبدو بعيدة عن بعضها البعض لكن فى دولة تعيش حالة من السيولة السياسية نتأكد أنها أمور مرتبطة ارتباطا وثيقا. منذ اندلاع ثورة 25 يناير وتدور على أرض مصر حرب مخابراتية من طراز فريد. عنيف وشرس وواضح. ومن خلال تلك الأحداث تبعث الرسائل. رسائل مشفرة لا يفك شفرتها إلا الخصم. هو وحده من يمتلك الرقم السرى لفك الشفرة. وقد هاجم مصر أجهزة مخابرات كل من إنجلترا وفرنسا وألمانيا وتركيا وإيران وإسرائيل وقطر والسعودية. والجميع تحت أعين المخابرات الأمريكية التى لعبت دورا كبيرا قبل الثورة وأثنائها وبعدها. هدف المخابرات الأمريكية كان وصول الإخوان إلى الحكم فى جنوب البحر المتوسط. فلو صعد الإخوان فى مصر للحكم وتمكنوا منها. كان من السهل أن تنتشر العدوى فى جميع الأقطار العربية. وقد لعبوا دورا كبيرا لتولى الإخوان الحكم وقاموا بعدة اتصالات ومقابلات دورية مع القادة القدامى الكلاسيكيين من الجيل الأول وفى نفس التوقيت كانت الاتصالات لا تنقطع مع الجيل الثانى الذى تربى فعليا تحت سمع وبصر المخابرات الأمريكية. الجيل الجديد الذى يمثله أحمد عبد العاطى وأسعد الشيخة ومراد على وإيهاب على وأيمن على وعصام الحداد وولديه جهاد، وعبدالله الموجود الآن فى لندن، ويتنقل ما بين العواصم الأوروبية لحشد وسائل الإعلام الغربية ضد ثورة 30 يونيو. الأمريكان بواسطة آن باترسون قاموا بالتخطيط لوصول مرسى إلى الحكم. والرجل كان يتلقى التعليمات من السفيرة مباشرة. شاكرا معبرا عن امتنانه للسيدة الفاضلة (آن) كما كان يطلق عليها. تلك المرأة تمثل تاريخا طويلا من علاقة السفارة الأمريكية بأى ثورات تتم فى مصر. فبعد أن تسلمت الولاياتالمتحدة مفاتيح العالم من الإنجليز، كان للأمريكان سياسة قد تكون متطابقة خصوصا فى اختيار سفيرهم، فهو المتصل دائما بجميع الأطراف السياسية فى مصر ويحظى بسمعة طيبة وثقة كبيرة عند معظم تلك التيارات. على سبيل المثال فى ثورة 23 يوليو 52 كان يقطن السفارة الأمريكية بالقاهرة السفير كافرى جيفرسون وهو أحد الدبلوماسيين الأمريكيين البارزين، فقد كان سجله حافلا بحوالى ثلاثين انقلابا ببلدان أمريكا اللاتينية كما أنه هو الذى أرغم العديد من البلدان الأوروبية على تقبل خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، كما أن نفس هذا الرجل السياسى الفذ هو أحد مؤسسى حلف شمال الأطلنطى. كان كافرى وقت الثورة المصرية منوطا به تشكيل حلف عسكرى بالشرق الأوسط وكان حلف بغداد هو الهدف، وقد كان كافرى على علاقة وثيقة بكل من عبدالناصر والسادات وعبدالحكيم عامر. ويمر الزمن سريعا وتأتى ثورة 25 يناير وتأتى إلى مصر سفيرة جديدة هى آن باترسون التى تتمتع بشخصية قوية. تتصف بالغرور والتعالى. تتعامل بحدة مع كل معارضى السياسة الأمريكية. لديها خبرة كبيرة فى التعامل مع الجماعات الإسلامية لتاريخها المهنى السابق بالتواجد فى أفغانستان وباكستان. كما أنها حاصلة على درجة الدكتوراه ورسالتها كانت فى كيفية تزوير الانتخابات فى العالم الثالث. تلك المرأة استطاعت منذ قدومها إلى مصر فتح قنوات اتصال عديدة مع الإخوان المسلمين والتيار السلفى والتيارات الليبرالية. وهى المسئولة عن تفجير قضية التمويل الأجنبى والتى أدت إلى حدوث توتر كبير فى العلاقات بين مصر وأمريكا. هنا لابد علينا أن نتشكك فى النوايا. باترسون كانت على اتصال دائم بمرسى ومكتب الإرشاد حتى إن بعض المتابعين كانوا يطلقون عليها المندوب السامى الأمريكى. مرسى لم يكن يتحرك ولا يتخذ قرارا إلا قبل أن يستشير السفيرة. ومن ضمن تلك الاستشارات كانت قبل فض اعتصام الاتحادية بالقوة. وهى القضية التى يحاكم فيها مرسى وأعوانه الآن. اتصل مرسى بالسفيرة ينتظر منها المشورة. ونصحته بفض الاعتصام بالقوة. وإظهار قوة وقدرة الإخوان لردع بقية الفصائل السياسية بوجود قوة كبيرة وشرسة خاصة بهم ويمكن استعمالها وقت اللزوم وفى أى وقت. ونصحته بأن معظم الأجهزة الأمنية الموجودة فى مصر ليس لها ولاء له أو لجماعته. مرسى سأل السفيرة القوية عن رد الفعل العالمى لو حدث شىء فى فض الاعتصام. فطمأنته باترسون بأنها ستكون إدانة فقط. ولن تصل إلى حد العقوبات. وبعد أن انتهى مرسى من المكالمة، وأخذ الضوء الأخضر بفض الاعتصام. قام بعمل اجتماع مصغر لمستشاريه من الإخوان فقط. وقام أسعد شيخة بتبليغ مكتب الإرشاد. ولتوريط الأجهزة الأمنية. طلب مرسى من قائد الحرس الجمهورى أن يفض الاعتصام بالقوة ولم يجد استجابة ولم يلح هو فى الطلب. وعندما طلب من وزير الداخلية أن يفض الاعتصام بالقوة لم يجد استجابة أيضا. فمرسى كان يثبت حالة لا أكثر لأنه بالفعل بدأ فى تنفيذ القرار عن طريق أعوانه. وتم توزيع الأدوار. واختص كل من أسعد شيخة وأحمد عبد العاطى وأيمن عبد الرءوف باستدعاء انصار الإخوان المدربة على فنون القتال وحشدهم فى محيط قصر الاتحادية. وكان دور عصام العريان ومحمد البلتاجى ووجدى غنيم هو الظهور فى الفضائيات للتحريض على فض الاعتصام وتهيئة المناخ العام لاستعمال القوة. وعندما بدأت الاشتباكات كان أسعد شيخة وسط أنصاره فى مسرح الأحداث يمسك بجهاز ليزر يشير به إلى شخص ما من المعتصمين كإشارة. فيتم ضربه على الفور بسلاح خرطوش حصل عليه الإخوان من تنظيم حماس. وهى بندقية بها سبع طلقات فقط. الطلقة عبارة عن كرة حديدية كبيرة الحجم تقتل فور دخولها الجسم بخلاف خرطوش الداخلية الذى يحمل 13 طلقة من الحجم الصغير ولا يسبب الوفاة إلا إذا ضرب عن قرب وفى مناطق حساسة من الجسم، وانتهت الواقعة كما رأينا. لكن الأهم هنا هو رصد الجهات السيادية المكالمة التى تمت ما بين باترسون وبين مرسى. وهى المكالمة التى وضعت فى أدلة الثبوت فى القضية. والتى كانت ستعلن فى القضية أمام المحكمة. وهنا يكمن سر هجوم النيويورك تايمز على مدير المخابرات المصرى -بجانب اتهامهم للمخابرات المصرية بفضح التجسس على تليفونات ميركل- ويفسر أيضا زيارة جون كيرى لمصر قبل المحاكمة بيوم، جاء ليطلب عدم إثارة مكالمة السفيرة فى المحاكمة- كما أنه جاء لطمأنة الرياض بعدم التخلى عنهم وتأييدا لسياستهم، وهو ما يفسر الأفعال الصبيانية التى قام بها الإخوان داخل القفص من المتهمين وخارج القفص من الأعوان. المطلوب التشويش على القاضى كى لا يدلى بثبوت الاتهام وترفع الجلسة لتؤجل القضية. هى ألعاب قذرة لكنها أحيانا مفضوحة. أحيانا..