فيلم "جنة علي" هو فيلم وثائقي مهم للغاية وأحد الأفلام المشاركة فى الدورة الخامسة عشر لمهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية القصيرة ، لآنه يبحث في العلاقة الشائكة بين ثقافة الغرب والشرق من خلال العلاقة التي ربطت بين المخرج السينمائي الألماني" راينر فيرنر فاسبندر" الذي كان له مكانة مرموقة في فضاء الفن الألماني وزاع صيته في أنحاء العالم كله، والممثل المغربي الهادي بن سالم بطل فيلم " الخوف يلتهم الروح" الذي أخرجه فاسبندر نفسه، حيث تدور أحداثة في أعوام السبعينيات في ألمانيا حول علاقة مستحيلة بين سيدة ألمانية مسنة وشاب مغربي من العمالة المهاجرة آنذاك في المانيا. يبدأ الفيلم بمشهد من فيلم "على: الخوف يأكل الروح"، الهادى بلحيته وتكوينه الجسمانى القوى يبدو كما لوكان تجسيداً للفكرة الأوربية عن الرجل الشرقى العنيف والشهوانى، وينتهى الفيلم بمشهد للهادى وهو فى أحد أفلامه، المشهد تتمثل أهميته فى أنه الوحيد الذى يحمل صوت الهادى الحقيقى، فقد كانوا يلجأون الى دبلجة حواراته القليلة الى الألمانية التى لم يكن يجيدها عندما وصل من باريس، وحتى فى هذا الحوار القصيركان الهادى يدعو بعض الشباب للدخول الى مكان فيه كل ما يشتهون من النساء والطعام. ربما تكون عودة الصوت الأصلى ترجمة لعودة الهوية ولو فى احد أبعادها البسيطة والمباشرة. هذان القوسان يحصران حكاية الهادى/على ومأساتهما فى أن أوربا لم تنس أبدأ أنهما قادمان من الصحراء، مجرد كائنات غريبة غير قادرة على الإندماج، يمكن الإستفادة منها، ولكن أيضاً يمكن طردها فى أى وقت. الحقيقة أن شخصية على التى لعبها الهادى فى فيلم فاسبندر لديها أيضاً نفس الأزمة، على كان مجرد مهاجر عربى يعيش قصة حب غريبة مع سيدة عجوز بدينة، ويعانى الإثنان فى سبيل تواصلهما معا، ثم فى سبيل إقناع المجتمع المحيط بهما بأن العلاقة بينهما يمكن أن تكون مقبولة. اختيار عنوان الفيلم ليكون "جنة على" وليس "جنة الهادى" تصرّف شديد الذكاء والوعى، لأنه يقول لنا ببساطة أن حكاية الهادى لا تحتلف كثيرا عن معاناة على، الإثنان يعتقدان أنهما ذاهبان الى الجنة بينما يتحركان بسرعة الى الجحيم. لا يُجزم الفيلم بأن الهادى قد انتحر، بل إن ابنه عبد القادر يقول إنه قد يكون حياً فى مكان ما، ولكن حيثيات الصراع النفسى التى رسمها الفيلم، يمكنها أن تجعلك تصدق أن شخصية مثل الهادى قد تكون مستعدة للإنتحارفى أى وقت خاصة مع إدمان الخمور والمخدرات، ومع الميول الواضحة لممارسة العنف. فى روايات الجانب الألمانى (ممثل وممثلة ومونتيرة ومساعدة إخراج مع فاسبندر) ما يكشف ولو بشكل مستتر عن أنهم كانوا ينظرون الى الهادى بوصفه شخصية غرائبية، حتى طريقة استدعاء فاسبندر له من باريس، ثم علاقتهما الحميمة، رغم زواج الهادى وإنجابه، تبدو كما لو أنها محاولة إغواء انتهت بالصدام ، رغم أن فاسبندر قام بإهداء أحد أفلامه فيما بعد لروح صديقه العربى المنتحر. فى روايات الألمان تفصيلات كثيرة عن عنف الهادى وثورته وتحطيمه الأثاث والأماكن، وهناك كلام عن ابنه عبد القادر الذى تشرد أيضا فى ألمانيا، عاش الإبن فى أحد الملاجئ، وأقام لفترة فى منزل أحد الممثلين الألمان، كان الهادى قد طُرد من ألمانيا بعد أصاب عدة أشخاص فى معركة دامية. تكتشف فيولا عبد القادر وقد أصبح أقرب الى الشيخوخة، يذهب معها أولا الى مدينة الرديف التى كانوا يعيشون فيها، يشير الى مساكن كانت لهم ولم تعد كذلك، ينطلق بنا الى الجزائر حيث مازالت تعيش حفظية الزوجة السابقة للهادى وأم أولاده الثلاثة: عبد القادر وحمدان وزكية، الأخيران يعيشان مع الأم فى الجزائر. ملامح الهادى فى نظر أسرته العربية أكثر حيوية، تقول حفظية إنها تزوجته فى سن صغيرة، تحكى أيضاً عن حبه لتناول الخمور، تبكى وتقول إنها لن تسامحه أبداً لأنها تركها واخذ أولادها، تتدخل الابنة زكية لتحكى عن عودة الهادى ذات مرة لزيارة أولاده، تقول انه احتضنها وهى طفلة، وأخذ يبكى ويشكو بحرقة من الغربة التى أبعدته عن أسرته. كان الهادى ولداً واحداُ وسط عدة بنات، تتحدث إحدى بنات إخوته عنه باعتباره إنساناً متعلماً فى زمن كان الفرنسيون فقط هم المتعلمون، نكنتشف أن الهادى يكاد يلخّص مواطن المغرب العربى المهاجر، الرجل مغربى تزوج من جزائرية وعاش فى تونس وهاجر الى فرنسا وعمل فى ألمانيا ثم سجن ومات فى فرنسا. ينفرد عبد القادر بروايات عن عنف والده بعد إدمانه على الكحول والمخدرات، عمل عبد القادر أيضا وهو طفل فى بعض الأفلام الألمانية، أحد الممثلين الألمان يحاول بالكاد أن يتذكر اسم الابن، يقول الممثل ان ابن الهادى عاد الى (الصحراء)، وتقول صديقة أخرى إن ابن الهادى ضاع فى زحام المدينة. نشاهد الهادى فى أدواره القليلة فى افلامه القليلة، نشاهده أيضاً عارياً فى أحد أدواره المسرحية، ابن شقيقة الهادى فى فرنسا يحكى عن لقاء الهادى مع فاسبندر فى باريس، نعرف فى النهاية أن علاقة الطرفين شهدت توترا ومداً وجذراً لدرجة ان فاسبندر كان يخاف أن يقتله صديقه العربى. الدائرة لا تكتمل بانتحار الهادى أو موته (ولد عام 1935 وتوفى عام 1982)، ذلك أن الفيلم رسمه بوجهين ومن زاويتين، أصبحنا أمام سؤال أكبر من سؤال البحث عن التفاصيل فى حياة إنسان عربى، أصبحنا أمام سؤال الهوية المزدوجة، جعلتنا فيولا شفيق أمام معنى أن تضع قدماً فى الشمال وأخرى فى الجنوب فلا تُقنع أهل الشمال، ولا يرضى عنك أهل الجنوب. بدا لى الهادى بن سالم بهيئته وحكايته وجنّته الموهومة مثل عطيل عصرى، ليس فى التفاصيل وإنما فى المعنى والمغزى. عطيل جاء أيضاً من المغرب حاملاً جسده وقدراته، اقتحم العالم الضد، ولكنه لم يستطع أن يخرج من جلده، بدا مثل النغمة النشاذ وسط مجتمع مختلف يمكن أن يعترف به، ولكن فى حدود، هو أيضا لم يستطع أن ينفصل عن طبيعته، فكانت المأساة. فيلم "جنة على" يقول من خلال حكاية الهادى المؤلمة، ومن خلال معاناة أسرته وأبنائه، من خلال استدعاء شخصية على فى فيلم فاسبندر المؤثر، إن الجنة يمكن فى بعض الحالات أن تكون الخطوة الأولى للهبوط الى الجحيم.