رائحة الموت تفوح في ميادين أرضنا الطيبة ممزوجا برائحة البارود.. حماة الوطن يقتلون أبناء الوطن..
وأبناء الوطن الواحد يقتل بعضهم بعضا..
ويصيب بعضهم بعضا..
وفي خضم الكر والفر، استوقفني مشهد واحد بين كل هذا الزحام، مشهد واحد يحكي مواجع مصر..
بطل هذا المشهد جندي من الأمن المركزي لا علاقة له بالسياسة.. وربما لا يعرف اسم رئيس وزراء مصر، دخل ليؤدي خدمته العسكرية لتقذف به الأقدار لميدان من ميادين الثورة التي قامت من أجل أن يسترد هذا الجندي كرامته المسلوبة وإنسانيته الممتهنة، ليجد نفسه يقاتل من يريد أن يعطيه حقوقه، بالأمر يشتبك من شاب مثله، ينادي بحق كليهما، ويقذف بالقنابل المسيلة للدموع ليصيب عين أخيه، وهو يعلم أنه إذا لم ينفذ الأمر حوكم عسكريا، وإذا نفذه ربما حاكمه ضميره... فبأي قلب من قلوب الحكام، وقلوب الطامعين في الحكم يقلبون الأمور، وبأي عقل يحولون جميعا مصر إلى جثة ينهشها كلاب الطريق.
إن المشهد الدامي ينطق بكلمة واحدة "الكل باطل.. إلا ما رحم ربي"
لقد أبصرت فئتين في الميدان، فئة أصحاب الرأي غير المسيسين الذين يحلمون بمصر أفضل، وهم قليل، وفئة أصحاب الحقوق التي أهدرها السابقون، والذين كانوا في كل معركة من معارك حياتهم القاسية البائسة تجدهم وقد تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.. تراهم اليوم وقد وقفوا في هذه المعركة التي يتمنون بعدها حياة طيبة، أو يتمنون فيها ميتة شريفة بعد أن تقطعت بهم اسباب الحياة الطيبة.
يدفع هؤلاء وهؤلاء إلى أتون من النيران فئة من أصحاب المطامع والمصالح والأجندات الخاسرة، والقائمين على أنقاض وطن جريح، ينهشون في لحم مصر ويشربون من دمائها الطاهرة الزكية.. يدفعونهم للموت والهلاك ليخلو لهم وجه مصر.
يعلو فوقهم جميعا مجلسا عسكريا، فشل في إدارة البلاد، وصيانة مصالح العباد، ويبدو أنه اختار أن يضحي باقتصاد البؤساء والفقراء والمعدمين من أهلنا؛ من أجل أن تبدو صورته ناصعة البياض في مواجهة من يخربون ومن يريدون بمصر سوءا، وربما كان في هذا المجلس من يطمع في أن يكره الناس الثورة ويفضلون وجودهم، إذا استمر الحال على ما هو عليه، وهو وهم كبير يشير إلى أن مثل هؤلاء –إن وجدوا- لم يقرأوا بدقة هذه اللحظة الراهنة التي تؤكد أن حر الحياة القاسية جعل الثعابين والعقارب والضائقين والمتعبين من النمل يسبقهم البوم والغربان يخرجون من جحورهم، وأن الهدف الذي يوحدهم جميعا هو ألا تعود مصر إلى العسكر مرة أخرى، وأن سياسة إخماد الثورة بالفقر وغياب الأمن لن تجدي نفعا لو كانوا يعلمون..
ويقف في منتصف الطريق وقفة الخزي والعار، مجموعة من الأحزاب التي لو اطلعت عليها لوجدت أن باطن الأرض أولى بها من ظاهرها.. تجدها باهتة طامعة، ترقص على مواجع مصر، وآلام مصر، وفقر مصر، وضيق أهلها وعجز حكامها وضياع محكوميها.
وبين هؤلاء وهؤلاء إعلام خير له أن يصمت على أن يبث سمومه ومزايدات القائمين عليه، والمقامرين بقوت فقراء هذا البلد وتعسائه ومنكوبيه.. لو كان لديهم بقايا من ضمير، ولمحة من معاني شرف الكلمة وأمانة الرأي.
ووسط هذا الزحام الكثيف تجد هناك فئة الشباب الثائر، والشباب الحائر، والشباب الذين يتمنون أن يجدوا إلى الموت سبيلا غير الانتحار على جسر من اليأس.
تبصر المشهد من كل زاوية فتجد الصورة تنطق بأعلى صوتها بأن الكل باطل إلا ما رحم ربي.
إن كعكة مصر مسمومة أيها المتآمرون، ومن أراد بها سوءا أهلكه الله.
فإلام تنظرون؟
إلى كرسي تعس صاحبه ،الذي ظن أن له ملك مصر وأراد توريثه لولده، فكان مصيره الهلاك ورأى ورأيتم معه كيف بات ابنه من الغارقين؟
أم إلى جاه ذهب بأصحابه إلى غياهب السجون، وأذاقهم الله بحرامه الخزي في الدنيا، وورث أهلهم العار مع أموالهم التي نهبوها على مرأى من الناس؟
أم إلى سلطان أصبح كهشيم تذروه الرياح مع أي وقفة احتجاج، تدعو إليها أي جماعة ولو كانت من الجماعات التي تختبئ بالليل لتواري سوءاتها بالنهار؟
من منكم أيها القائمون على أمرنا، يفكر في مواجع هذا البلد الأمين، ومن الذي يلملم أحزان أهله الطيبين؟
من منكم يقف موقف الرجال ليقول للطامعين كفى امتهانا لمصر، وأهلها، واستهانة بمصيرها ليحق عليه صفة الرجال الراشدين؟
فإن لم يلبي نداءنا رجل شريف، فلتعلموا أيها المصريون أن الفجر آت لا محالة، وأن بكاء الإمام والمصلين في الحرم الآمن قد شكا بث وحزن مصر إلى الله العلي القدير، والله غالب على أمره.. وأن دعوات المظلومين لا حجاب بينها وبين رب العزة الذي هو بكل شيء محيط.. وأن كل من آذاكم ونالكم بسوء مصيره إلى هلاك، ويقيني أن مصر سوف يخرجها الله من هذه الفتن سالمة غانمة..
وستقف شجرتها أبية عتيه على رياح الغدر والطمع..
ستعود إلينا مصر سالمة ببركة طيبيها ومؤمنيها وركعها السجود..
ستعود مصر سالمة بأذان مساجدها الودود، وأجراس كنائسها الطيبة.