الثورة هناك قامت على أكتاف كل التيارات السياسية.. ثم ركبها التيار الإسلامى وحده تنص المادة الخامسة من الدستور الإيرانى على أن ولاية الأمر، وإمامة الأمة فى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فى زمن غيبة الإمام المهدى (الإمام الثانى عشر عند الشيعة الإمامية والذى غاب ليعود فى نهاية الزمان ليحكم العالم بالعدل) تكون بيد الفقيه العادل (المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية). كما ينص الدستور أن للمرشد الأعلى جميع الصلاحيات غير المحدودة، والتى تبدأ بأنه رئيس السلطة القضائية، رئيس مؤسسة الإذاعة والتليفزيون، القائد الأعلى لقوات الحرس الثورى والقوات المسلحة، وصلاحية إعلان الحرب، ولاينتهى بقبول تعيين رئيس الجمهورية بعد انتخابه والذى لا يتعدى دستورياً مجرد رئيس للسلطة التنفيذية لا حول له ولا قوة أمام سلطة المرشد المطلقة. فالمرشد فى نظام الجمهورية الإسلامية، هو الرجل الأول والأخير، مالك مقدرات الشعب، الحكم بين السلطات، ولا تصح مراجعته، حتى البرلمان كسلطة تشريعية لا يملك حق الاعتراض على ما يقرره المرشد الأعلى من النهاية فإن جميع مؤسسات الدولة وسلطاتها تكتسب شرعيتها من شخص المرشد وليس العكس، فلا راد لأمره. تلك القدسية السياسية لشخص المرشد التى نص عليها الدستور الإيرانى، نابعة من قداسة دينية أسس لها وطبقها الإمام الخمينى بعد نجاح الثورة الإيرانية (1979)، وسيطرة الفقهاء ورجال الدين على مقدرات الشعب الإيرانى، الذى قامت ثورته على أكتاف مختلف التيارات السياسية فى البداية خاصة اليسار، ثم ركبها التيار الإسلامى المتمثل فى شخص الخمينى ومن سانده، وبدأ فى تأسيس حاكمية منيعة للفقهاء بخطة تمكين تعتمد على تصفية كل التيارات السياسية التى شاركت فى الثورة. استغل الخمينى التراث الشيعى الضخم حول أزمة غياب الإمام الثانى عشر (المهدى المنتظر)، وقرر أن يحول شخصية الفقيه أو رجل الدين إلى الولى الفقيه، الذى ينوب عن الإمام فى غيابه، يحكم العالم باسمه إلى حين عودته من غيبته، أى ولاية مطلقة للفقيه، وهذه الفكرة من أكثر الأفكار تطرفاً فى الفكر الشيعى، ولم تلق فى بداية طرح الخمينى لها قبولاً فى أوساط الفقهاء الشيعة الكبار حتى داخل إيران نفسها، فالكثيرون منهم كانوا يرون أن دور الفقيه لا يتعدى مجرد الإرشاد والتوجيه، وأن سطوة رجل الدين بهذا الشكل سوف تطيح بالثورة وبأى حرية أو ديمقراطية ممكنة بعد سطوة الشاه وحكم الفرد المطلق، فمنطقهم أن إيران لن تخرج من أزمة حكم الفرد بالحق الملكى، إلى حكم الفرد بالحق الإلهى المقدس، ولكن كانت ردة فعل الخمينى الذى بدأ فى وضع الدستور والنص على لقب المرشد أو القائد العام للثورة الإيرانية لشخصه ومن يأتى بعده من الفقهاء، أنه مارس آليات القمع حتى على من عارضه من الفقهاء أنفسهم. والحقيقة أن خطيئة الخمينى التاريخية لم تكن تخصه منفرداً، بل شاركت فيها مختلف التيارات السياسية وعلى رأسها اليسار والتيار الليبرالى، الذى تضامن مع الخمينى ودولة المرشد فى بداية الثورة، ليحقق مكاسب سياسية سواء على مستوى التواجد الشعبى، أو خوفاً من سطوة بقايا نظام الشاه، ولكن النتيجة كانت سلبية على رأس الجميع، فقد قام نظام الخمينى بتصفية مختلف التيارات السياسية وعلى رأسها اليسار (خاصة حزب توده، ومجاهدى خلق وكلاهما من العناصر الأصيلة فى قيام الثورة) فى محاكمات علنية بعد أن اتهمهم بالكفر أو الخيانة والعمالة، وأصدرت المحاكم الثورية أحكاماً بالإعدام لكل الحالة الثورية، ولم يتبق على الساحة إلا التيار الدينى بأصوله المتشددة، التى تحقق للمرشد سلطة مطلقة منصوص عليها دستورياً، خاصة بعد مساندة شعبية بحثت على عدل الدولة الدينية بعد ظلم العهد الملكى البائد. فالشعب الإيرانى الذى خرج بالملايين، فى ميادين المدن الإيرانية منذ ثلاثين عاماً، بحثاً عن العدل والمساواة والحرية، بعد فترة حكم ديكتاتورى دامت لعقود، وجد فى التيار الدينى قمة العدل، بعد حملات ترويجية ضخمة قام بها التيار الدينى لصالحه، ولصالح مشروع دولة المرشد وأنها المنقذ من ضلال دولة الشاه الذى أشاعوا أنه يُعد العدة للعودة لحكم إيران، وأنه سوف يصدر رئيس وزرائه (شاهبور بختياري) للقفز على الثورة. اختار الشعب أن يؤيد دولة عدل المرشد عن أن يؤيد حتى ثورته نفسها، وفى النهاية تحوَّلت الثورة من الإيرانية إلى الإسلامية بعد عام واحد من هبوط الخمينى فى مطار طهران، قادماً من منفاه فى باريس. ومنذ تلك الفترة وإيران تعانى الأمرين من حكم فرد تحت رداء القداسة الدينية، أو ظل الله على أرضه، حتى بعد وفاة الخمينى، وتولى (على خامنئي) منصب الإرشاد منذ عام 1989، بعد أن كان رئيساً للجمهورية فى عهد (الخميني)، ونتيجة غياب أى كاريزما حقيقية فى شخص (على خامنئى) عكس شخصية الخمينى، عمد إلى مزيد من القمع السياسى والاجتماعى، بدأ بتبعيد أى صوت معتدل من رجال الدين، ينادى بأى إصلاحات سياسية، وصولاً لإغلاق كل الصحف التى تبدو عليها أى بوادر للمعارضة، مروراً بحالة قمع اجتماعى للأقليات الإيرانية والتى تشكل مجتمعة ما يزيد على 58% من إجمالى سكان إيران، اضطهاد طال جميع الأقليات، خاصة الكردية السنية والأحوازية ذات الأصول العربية، بالإضافة إلى ضغط اقتصادى عام يجعل من المواطن الإيرانى رهناً للقمة العيش. كل هذا فى سبيل الحفاظ على هيبة منصب المرشد، وبالتالى هيبة الدولة. والأهم أن المرشد الجديد، حاول أن يزيد من قداسته الخاصة عن طريق بعض رجال الدين الموالين له، عن طريق خطب الجمعة فى المساجد العامة، أو تصريحات العديد من آيات الله الكبار، فمثلاً صرح آية الله (لقب لرجال الدين فى إيران) أحمد جنتى، وهو من رجال الدين الموالين للمرشد والأكثر تشدداً، فى إحدى خطب الجمعة (بأن من ينكر ولاية الفقيه، كمن ينكر وجود الله، فلا ولاية لأحد بعد الرسول إلا للولى الفقيه، ومن يتجرأ على مجرد التشكيك أو التفكير فى ذلك يخرج من الملة مباشرة)، وقس على ذلك الكثير من الدعاية الدينية، والتى ظهرت تحديداً بعد أزمة انتخابات رئيس الجمهورية التى تمت فى عام (2009)، والتى أتت برجل المرشد الأول (أحمدى نجاد)، وهذا هو الفصل قبل الأخير فى اكتمال دولة المرشد. ف (أحمدى نجاد) منذ عام 2005، وهو اليد الضاربة لدولة المرشد ضد مختلف التيارات الإصلاحية، التى بدأت فى الظهور منذ عام 1998، ووصول (محمد خاتمى) لرئاسة الجمهورية فى إيران، ومع زيادة تواجد تيار الإصلاح فى المجتمع الإيرانى، كان لابد أن يأتى رئيس جمهورية جديد ولاؤه التام للمرشد ودولته، فكان نجاد، الذى بدأ فى تصفية التيار الإصلاحى وإقصائه من أى منصب وتشويهه تدريجياً، حماية لدولة المرشد. وكانت انتخابات 2009 هى نهاية كاملة للإصلاح فى إيران، حيث أُشيع أن انتخابات الرئاسة فى ذلك الوقت قد تم تزويرها لصالح (أحمدى نجاد) عن طريق تصويت رجال الحرس الثورى فى الانتخابات لصالح نجاد، مما حتم خروج مؤيدى المنافسين الإصلاحيين خاصة (مير حسين موسوي) إلى الشارع، وقيام مظاهرات عمت الجامعات والميادين، فيما يسمى بالحركة الخضراء، ووقع التيار الإصلاحى فى فخ المرشد ورجله الأول فى ذلك الوقت (نجاد)، وتم بشرعية القانون والدستور، تصفية كل رموز الإصلاح فى محاكمات جماعية، بتهمة العمالة لدول أجنبية وقلب نظام الحكم، وتلقى تمويلات من الخارج إلى غير ذلك، وانتهى الأمر لرموز الإصلاح، إما بالسجن أو بالإقامة الجبرية، وتم فصل كل الطلاب المشاركين فى تلك التظاهرات من الجامعات، أو فصلهم من وظائفهم، وانتهت الحركة الإصلاحية لصالح مزيد من ديكتاتورية دولة المرشد. ثم يأتى الفصل الأخير من دولة المرشد، وهو ما يتم الآن فى إيران، فبعد القضاء على المعارضة الإصلاحية أو الحركة الخضراء، لم يتبق أمام المرشد إلا القضاء على (أحمدى نجاد) ذاته، الذى تغول وازداد نفوذه بمباركة المرشد فى البداية.مما أدى إلى أن تنقسم النخبة السياسية بين موال لنجاد الذى استند على القوة العسكرية وسلطة الحرس الثورى وموال للمرشد، مما حتم على المرشد وتياره أن يُعيد الأمور إلى ما كانت عليه، وحكم الفرد الإلهى المقدس، فظهرت دعوات فى إيران تؤيد فكرة طرحها المرشد (على خامنئي) ذاته، وهى غاية فى الخطورة، تعتمد على أن رئيس الجمهورية لا يتعدى دوره دستورياً إلا رئيساً للسلطة التنفيذية، وبالتالى لسنا فى حاجة إلى انتخابات حرة مباشرة تأتى برئيس تنفيذى فى النهاية، إذاً سيكون الحل أن يتم انتخاب الرئيس بواسطة البرلمان وأغلبيته.مما أثار إشكاليات خطيرة على مستوى النخبة والشارع السياسى، فمعنى ذلك أن الدولة ستكون بلا منافس فى يد المرشد فقط لا غير، دون أى منافس يحقق أى تواجد شعبى أو اجتماعي. صحيح أن هذا الأمر لم يطرح بعد للتنفيذ المباشر، خاصة ونحن أمام انتخابات رئاسية جديدة هذا العام، ولكن لها مقدمات تشير إلى إمكانية تحققها، ففى الانتخابات البرلمانية التى تمت منذ نحو ثلاثة أشهر، حاز التيار الأصولى المؤيد للمرشد على أغلبية تعدت ال 70%، أمام التيار المؤيد لنجاد الذى لم يتعد ال 30%، يعنى أصبح للمرشد سطوة سياسية بالإضافة للسلطة الممنوحة له دستورياً، وأصبح بلا منازع هو حاكم إيران الوحيد، فى مقابل تراجع (نجاد) وتياره، مما قد يشير إلى إمكانية تنفيذ مخطط المرشد بإلغاء منصب رئيس الجمهورية وتحويله إلى مجرد رئيس وزراء منتخب من الأغلبية البرلمانية التى أصبحت تحت سطوته الكاملة، فالعملية السياسية فى إيران التى بدأت بدولة المرشد لن تنتهى إلا بدولة المرشد. الشارع الإيرانى الذى اختار يوماً ما دولة العدل الإلهى، يعانى الآن من نتاج اختياره سواء على المستوى الاقتصادى المتدنى أو الاجتماعى، فقد أصبحت كل مقدراته بيد فرد واحد لا شريك له، لدرجة جعلته ينفصل عن واقعه السياسى الآن خاصة بعد إحباطه فى أزمة الحركة الإصلاحية 2009، وعودة دولة المرشد بقوة، مما قد ينذر خلال فترة قادمة بأزمة سياسية تبدأ فى الشارع ولن تنتهى إلا على رأس النظام، ولكن من المؤكد الآن أن دولة المرشد لن تسقط فى إيران إلا بعد مذابح دموية تأتى على الأخضر واليابس.