كالكلاب السعرانة هم بالفعل أولئك الذين يتعرضون إلى الدق داخل جماعات السمع والطاعة، لا يختلفون بالمرة عن الجنيهات المعدنية التى تدقها دار صك العملة، كالكلاب السعرانة، ليس فقط لأن النزوع الغريزى الى التوحش هو الذى يحمى استمرارها فى السلطة إلى الأبد، إنما أيضاً لأنها تشكل فى منحنى الارتقاء البيولوجى قفزة واسعة إلى ما وراء الوراء. ما يحدث فى مصر الآن أخطر من أن نكتفى حياله بالفرجة أو التأمل، كما لو أنه يقع هناك بعيداً فى تاهيتى أو نيكارجوا، انشغل الجميع بكميات الدم الذى يراق منذ انجعاص الأخ مرسى على فوتيه الرئاسة، لا بالطريقة الوحشية التى يراق بها، ولا بالطبيعة المشوهة لمن يصدرون الأوامر أو يحرضون أو يمولون أو ينفذون، لا أحد انتبه الى أن ما يجرى فى الواقع يرتد بالحياة إلى ما قبل عصور الآدمية، ما أعتقده أنا شخصياً، ولا أسعى إلى إلزام أحد بوجهة نظرى، أن ما فعلته الثورة هو أنها قامت بفتح الدمل، ولم يخطر على بال أحد أن بداخله كل هذا الصديد، فكانت النتيجة هى الانتشار السريع بواسطة الإخوان لواحد من أشرس الأوبئة التى استشرت بين أتباعها: السعار.
وقد ثبت بالدليل العلمى أن الذئب يحتل مرتبة بالغة التدنى بالمقارنة مع الكلب فى سلم التطور، وأن الذئبة هى الأكثر توحشاً مع بنات جنسها، كذلك فلقد ثبت بالدليل العلمى أن الكلب يصبح سعراناً حين يتعرض إلى عضة ذئب، الفيروس المدمر - الذى يسرى مع هذه العضة الانتكاسية فى عروق الكلب المسالم غالباً، ليضرب مراكز المخ فى دماغه- هو المسئول الأول عن تلك السقطة الفجائية المرعبة فى ليل الاستذئاب، يكون الكلب المنزلى أو الضال قد أصبح سعراناً بالفعل عندما - بدلاً من النباح- يعوى، مطلقاً تلك الصرخات النحاسية المتقطعة التى تغمس الخبز الشمسى على طبليات الفقراء بملح الكوابيس، نتأكد من أنها ليست سوى كلاب سعرانة، كلما بدا أن تلك المخلوقات أصيبت بالشبق إلى القتل والسحل والتحرش بالسيدات فى وضح النهار، نتأكد من ذلك كلما بدا أن تلك المخلوقات أدمنت تعذيب الثوار حتى الموت فى سلخانات الأمن المركزى بالجبل الأحمر، المحرك الغريزى لهذه المخلوقات الخربة من الداخل هو النهم الجنونى إلى سفك الدماء، الكلاب السعرانة، كأجدادها من الذئاب، لا ترتوى أبداً من مص الدم، الكلب عندما يعتريه - بالضبط أيضاً كالذئاب- خوف جنونى من ظله الذى يتصور هو أنه يلاحقه عامداً أينما ذهب، وأنه لابد أن يكون طرفاً فى مؤامرة يدبرها أعداؤه له، وقد سيطر عليه هاجس - يأبى الانصراف - بأن هذا الظل سينتهى- بلا محالة- بافتراسه، خوف جنونى من النار التى يتدفأ عليها القرويون أو المهمشون فى عشوائيات المدن الأشبه بمعسكرات الاعتقال، أو فى مواجهة الضوء الغائم الذى يتسرب من نوافذ عشش الصفيح، ما يدفع إلى الدهشة حقاً هو أن الإنسان - إذا عضه كلب مسعور- بدأ فى المشى على أربع، فضلاً عن ظهور سائر الأعراض الغريبة الأخرى عليه، عندئذ يكون الإنسان هو أيضاً قد هوى فى الفراغ نحو أزمنة الاستذئاب.
أظن أن داء السعار- بشكله التقليدى المتعارف عليه طبياً- ليس بالقطع هو الوحيد، مظاهر السعرنة أكثر فى الواقع من أن تحصى أو تعد، قطعان العضاضين من الكلاب السعرانة المعدلة جينياً تختلف عن السلالات التقليدية ليس فى الشكل فقط، وإنما كذلك فى أنها - بالإضافة إلى الأجساد- أصبحت تغوص بأنيابها فى مساحات البهجة أو الشجن أو مواطن الحلم أو التذكر أو القدرة على العشق، الشوارع تعج بالكلاب السعرانة، ولا يمنع العين الخبيرة من أن تميزها سوى الاعتياد، تراها العين الخبيرة فى حاخامات التكفير أو أعداء الحرية أو الإبداع.
المأساة الحقيقية تكمن فى أن كل الأمصال أو الكمامات ما عادت تجدى، وأن جميع تلك الكلاب السعرانة مازالت تحتفظ- خارجياً- بملامح البشر، هنا- على وجه التحديد- تكمن المأساة الحقيقية.. هنا على وجه التحديد.