تعودت علي أن أقرأ بإمعان تعليقات قرائي الكرام علي ما أكتبه والتي تنشر علي شبكة الإنترنت. ولما كنت أعتبر ما أكتبه مجرد اجتهادات لباحث علمي اجتماعي قد تكون صحيحة أو خاطئة, فإنني أرحب دائما بالملاحظات النقدية الذكية للقراء التي توجه للمقالات, في الوقت الذي لا أهتم فيه بالتعليقات التي تترك الأفكار المطروحة وتهاجم شخص الكاتب, وتوجه له تهما ملفقة تكشف عن جهل أصحابها بالتاريخ الشخصي والعلمي له لأنها بتعبير بعضهم أقرب إلي حكاوي القهاوي! لذلك اهتممت بتعليق الأستاذ االراضي بالله محمد, الذي وجه للكاتب دعوة مباشرة للمشاركة في العمل علي إصلاح القيم لإعادتها معتدلة كما كانت في العهود الماضية. وأنا أقبل هذه الدعوة بترحيب كامل, مع العلم أنها عملية شاقة لأنها تقتضي مني- من وجهة النظر العلمية البحتة- رسم إطار نظري مسبق يحيط بمجالات التنشئة الاجتماعية الأصيلة, وذلك مثل الأسرة والمدرسة والجامعة وبيئة العمل والإعلام, بالإضافة إلي صحة القيم التي يعبر عنها النظام السياسي المطبق, والتي ينبغي أن تركز علي احترام المواطنة في المقام الأول, وتحدد حقوق المواطنين وواجباتهم في إطار من التأليف الخلاق بين الديموقراطية والعدالة الاجتماعية. كل ذلك بشرط أن يقوم المشروع التنموي السائد بمهمة توسيع فرص الحياة أمام الناس, وذلك بتوفير الخدمات الأساسية في التعليم والصحة والتشغيل والتدريب, حتي تزدهر الشخصية الإنسانية في ضوء مبدأ أساسي هو تكافؤ الفرص, حيث تختفي كل صور المحسوبية والفساد, ويتاح للأكفاء والموهوبين والمبدعين في كل مجال أن يتقدموا الصفوف ويرتقوا- بجهدهم وعرقهم- في السلم الاجتماعي. غير أنني لو دخلت في مناقشة الأفكار النظرية الخاصة بالقيم, والعلم الاجتماعي زاخر بها, فستتحول الكتابة إلي تدريب نظري ممل قد لا يلقي قبولا من جمهرة القراء. ولذلك قررت أن أتبع خطة أخري سبق لي أن طبقتها حين دعتني جريدة الصباح القاهرية لكتابة مقال أسبوعي بها. ولما كنت حريصا علي ألا أكرر نفسي بالحديث عن الأمور السياسية, اخترت عنوانا للمقالات له دلالة وهو أوراق من مسيرة الوطن. وتقوم فكرتها أساسا علي الجمع بين بعض وقائع سيرتي الذاتية بما فيها من أخطاء في التقدير, أو شطحات فكرية, والسياق التاريخي للوطن منذ الأربعينيات حتي الآن, وذلك لإظهار كيف كانت القيم تمارس في الأجيال السابقة, وما العوامل التي أدت إلي تدهورها؟.. وكيف يمكن أن نعيد ترسيخ القيم الأصيلة من جديد؟!. وحتي لا أتهم بالذاتية وبحب الحديث عن النفس, أقرر بكل وضوح أن الغرض الأساسي هو بيان فضل أساتذتي علي في تكويني النفسي والفكري, لكي أثبت مقولة أساسية هي أن القدوة في المراحل التعليمية المختلفة من أهم الأمور في التنشئة الاجتماعية السليمة للأجيال المختلفة. في مدرسة رأس التين الثانوية كان أستاذ التاريخ المرموق هو محمد علي صفر, الذي فاجأنا في إحدي حصص التاريخ ونحن في الصف الثالث الثانوي بقوله: أغلقوا كتاب الوزارة, سألقي عليكم محاضرة عنوانها أحمد عرابي المفتري عليه. كانت الأسرة الملكية قد اتخذت موقفا عدائيا من مسيرة الزعيم أحمد عرابي, الذي ثار ضد الخديو توفيق وأشعل الثورة العرابية, وإذا بالأستاذ صفر يعطينا درسا مبكرا في التزييف الذي يدخله التاريخ الرسمي علي بعض الشخصيات الوطنية, ويلفت نظرنا ونحن بعد في مرحلة الصبا إلي أهمية التدقيق والرجوع إلي المصادر الأصيلة في مجال تقييم الشخصيات التاريخية. حين دخلت كلية الحقوق كان الدكتور سعد عصفور هو أستاذ مادة القانون الدستوري, وكان شخصية مهابة يتمتع بالعلم الغزير. وقد اتخذ عصفور موقفا مضادا لثورة23 يوليو1952 حين ألغي الضباط الأحرار دستور عام1923, وكان يقود ندوات في الكلية يعارض فيها سياسات الثورة, ويدعو لعودة الأحزاب السياسية ورجوع الضباط الأحرار إلي ثكناتهم. من الطريف أنه بالرغم من تقديرنا الكبير للدكتور عصفور فإننا كنا نختلف معه في رأيه, لأننا كنا قد كفرنا بالأحزاب السياسية, واعتبرنا أنفسنا من أبناء الثورة. ولم يكن الرجل يضيق بهذا الاختلاف في الرأي, أو يعتبرنا متمردين عليه وهو أستاذنا. ولكن الدرس الحقيقي الذي تعلمناه علي يديه يتمثل في أن طالبا وجه له سؤالا فقال له: أنا لا أعرف الإجابة عن السؤال, ولكن أعدك أن أذهب لمكتبة الكلية لأبحث الموضوع وسأخبرك بالنتيجة الأسبوع المقبل. وفي الأسبوع التالي وجه حديثه للطالب قائلا: لقد بحثت الموضوع وتبين لي أن هناك إجابتين عن السؤال, الأولي تقول كذا, والثانية تقول كذا, وأنا أرجح الإجابة الثانية. انتهي الدرس الذي لم ننساه طوال حياتنا العلمية, وهو ألا تخجل من أن تقول لتلاميذك: أنا لا أعرف الإجابة, وأنها هي بنت البحث, وأهم من ذلك أن الحقيقة نسبية وليست مطلقة, ومن هنا تتعدد اجتهادات الباحثين, وتتنوع آراء السياسيين في أي موضوع مطروح. أما في بيئة العمل فقد كنت محظوظا أن أعين باحثا مساعدا عام1957 في المركز القومي للبحوث الاجتماعية الجنائية الذي أسسه وأداره لسنوات طويلة أستاذي الراحل الدكتور أحمد خليفة, الذي أعطانا دروسا لا تنسي في الإدارة الديموقراطية لمراكز البحوث, وإعطاء الباحثين الحق في الاختلاف العلمي مع المدير باعتباره باحثا علميا, بالإضافة إلي شمول البرنامج التدريبي الذي أعده للباحثين الشباب المبتدئين, لكي يعطيهم منظورا واسعا للعلم الاجتماعي قبل أن يتخصصوا في فرع معين. ومن خلال ممارسة البحث العلمي والتتلمذ علي كبار الأساتذة أدركنا مبكرا قيمة العمل العلمي الجاد, والحرص علي تأصيل الأفكار, والرجوع إلي المراجع الأصلية وليس النقل من المراجع الثانوية. كان الدكتور مصطفي سويف عالم النفس المرموق هو الأستاذ الذي أثر في جيلي من الباحثين العلميين, وطمحت إلي أن أقلد أسلوبه في الكتابة العلمية وتعمقه في البحث. باختصار شديد في الأسرة والمدرسة والجامعة وبيئة العمل إذا كانت هناك تقاليد راسخة وقدوة صالحة, فالاحتمال كبير في أن تنشأ أجيال متعددة تؤمن بالالتزام والجدية وباحترام القيم الأصيلة. وأرجو ألا أكون قد تجاوزت في سرد بعض وقائع السيرة الذاتية, لأنني وجدت أنها بما تتضمنه أقرب إلي تناول الموضوع المعقد الخاص بكيف نرسي القيم الأصيلة؟! نقلا عن الاهرام اليومى المزيد من أعمدة السيد يسين