اللغة العربية هي الوعاء الذي ضم النص الديني في الإسلام بشقيه: المنزل وهو القرآن الكريم المحفوظ لفظًا ونصًا وتركيبًا وترتيبًا ؛ والمروي المتمثل في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا وخلقا وعبادة وسلوكا ؛ وقد نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين مؤكدًا ذلك في عشرة مواضع وردت في عشر سور هي يوسف ، إبراهيم، النحل ، طه ، الشعراء ، الزمر ، فُصّلت ، الشورى ، الزخرف ، الأحقاف. ففي كل سورة من هذه السور العشر آية تؤكد عروبة لغة القرآن ؛ وقد اعتبر المسلمون القرآن معجزة الرسول الكبرى؛ والتحدي الإلهي الأعظم لأمة من الأميين ؛ كانت فصاحتهم اللغوية أعظم إنجازاتهم الحضارية وموضع تفاخرهم ومباهاتهم ؛ بهرهم المستوى الرفيع للنضج اللغوي الذي بلغته لغتهم في فترة شديدة القصر في عمر اللغات فكتبوا شعرهم بماء الذهب وعلقوه على أستار الكعبة رفعا لمكانته رغم أن غالبيتهم العظمى لا تعرف قراءته لكنهم جميعًا يحفظون نصه ويتناقلون روائعه ؛ فنزل القرآن بإعجازه اللغوي المبهر ليحير ألبابهم ويطأطئ من غلواء مباهاتهم ؛ فوقفوا أمام إعجازه مبهوتين وسقطوا أمام تحديه عاجزين ؛ حتى بلغ الأمر بأحد أكبر رءوس الكفر الذين كذبوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وحاربوا دعوته وهو الوليد بن المغيرة المخزومي أن يقر بعظمة النص المنزل قائلًا: والله إن له لحلاوة ؛ وإن عليه لطلاوة ؛ وإن أعلاه لمثمر ؛ وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يعلى عليه. وقد فهم أهل عصر النزول من آمن منهم ومن كفر الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم ودلالاته وتعدد أوجه واحتمالات المقصود الإلهي منها في حدود علوم عصرهم ومعطياته ؛ وحدود وعيهم بأسرار لغتهم وقدراتها وتوقف المؤمنون منهم عن الخوض فيما غمض عليهم فهمه متيقنين أن التركيب اللغوي الإلهي المحكم سيتضح للأجيال التالية مع تقدم العلم وتطور المجتمع ؛ لأنهم عرفوا من القرآن نفسه أن إعجازه اللغوي سيظل يعطي الجديد المبهر عبر الزمان حتى تقوم الساعة ؛ لكن انتشار القبائل العربية خارج الجزيرة العربية من خلال الفتوحات الإسلامية التي شملت قارات العالم القديم الثلاث واختلاطهم بمجتمعات ولغات وحضارات شعوب البلاد التي فتحوها أفسد اللسان العربي وأثر على نقائه وفصاحته الفطرية مما اضطر علماء العصرين الأموي والعباسي إلى تدوين علوم اللغة كالنحو والصرف والعروض والبلاغة في شكل قواعدي محدد لا يدخل إلى أعماق اللغة ولا يحيط بأسرارها وقدراتها الأسطورية التي يستحيل تحجيمها بصورة قواعدية جامدة ؛ وكان النص القرآني المعجز أعلى وأعظم وأشمل مما توصلت إليه هذه العلوم اللغوية التي كان هدفها تعليميًا لنقل اللغة بشكل مناسب للأعاجم من غير العرب ؛ وكان تعمق الإعجاز اللغوي للنص القرآني ؛ مما يعسر ممارسته على المفسرين ؛ فاستخدموا منهجًا أكثر مرونة ويسرا وهو تفسير النص من خلال أقوال وروايات وأحاديث ضعيفة ومرويات غير موثقة تصل إلى حد الخرافة والأسطورة ؛ وتبتعد بصورة واضحة عن المدلول اللغوي لألفاظ وتراكيب النص المعجز. ومن أشهر أمثلة هذا المنهج قولهم إن المغضوب عليهم والضالين الواردة في فاتحة الكتاب هم اليهود والنصارى ؛ في تجاهل تام للصياغة اللغوية للآية ودلالات ألفاظها ، ومثل ذلك وأشد منه جموحًا كثير في التفاسير السابقة بدءا من الطبري وحتى تفسير الجلالين ؛ وقدست الأجيال التالية آراءهم وحكايتهم ؛ وأقصى ما وجه إليهم من نقد هو ما سموه بالإسرائيليات ؛ في محاولة لإبعاد الخطأ والخرافة عنهم باعتبار بعض ما لا يقبله العقل ولا النقل من كتاباتهم دسائس يهودية وقصصا تلمودية صدقوها بحسن نية ، وتوقف العقل العربي المسلم في عصور التخلف عن إعادة النظر في هذا المنهج وذلك بتأمل لغة النص ودلالات ألفاظه وإعجاز تركيبه ، والابتعاد عن تفسير النص بالروايات والحكايات والأحاديث الموضوعة ؛ بل وضعوا لتفسيراتهم شروحًا وحواشي وإضافات وتبريرات في نفس الاتجاه. أما الحديث فقد ظل في أعلى درجات تدقيقه معتمدا على صحة السند ؛ وأهمل النظر إلى لغة المتن لفظا وتركيبا ومعنى وصياغة ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب لسانا وأرقاهم بيانًا وأعلاهم بلاغة ؛ وقد نسبت إليه أحاديث صح سندها ؛ ولكن التوليد بَيّن في لغتها وألفاظها ؛ كما أن مدلولها ومقاصدها تتعارض مع نصوص الكتاب المنزل أو مع العلم أو العقل بل وأصول العقيدة أحيانًا ؛ وأهمل أهل الحديث تطبيق المنهج اللغوي على لغة وصياغة وألفاظ متن الحديث ومدى اتساقها مع لغة العصر النبوي ؛ ومستوى فصاحة الرسول الأعظم ومن حسن الطالع أننا نملك اليوم من ناصية اللغة بفضل علوم فقه اللغة الحديثة ما كان يملكه أهل السليقة في عصر النزول ؛ كما قال عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين ؛ كما أن كل مسلم يؤمن بالقطع بأن كل حرف ولفظ وتركيب لغوي في القرآن الكريم يمثل بدقة دلالته اللغوية كما يفهمها عربي السليقة في عصر النزول وعلماء العربية المعاصرون الذين ملكوا منها بالعلم ما لم يملكه المفسرون والمحدثون في عصور سابقة الذين تجاهلوا تعمق لغة النص ودلالاتها وبلاغتها وحقيقتها ومجازها؛ وسوف يكون هذا المنهج حجر الزاوية في إعادة النظر في المقصود الإلهي للنص المنزل لفهمه على أساس صياغته اللغوية دون حاجة إلى الروايات والأحاديث الضعيفة والحكايات الأسطورية ؛ فما فرط الله في كتابه المحفوظ من شيء ؛ والنص الإلهي المنزل كامل الأداء للمقصود الإلهي ولا يحتاج لهذه الإضافات التي ما أنزل الله بها من سلطان ؛ فكل إضافة للمعنى اللغوي الدقيق والمحكم للنص تحمل شبهة نقص تنزه القرآن الكريم عنه فهو بلسان عربي مبين ميسر للذكر والفهم ؛ كما أنه يحمل في لغته وصياغته ما يوضح المقصود منه والمرتبط بحدث أو مناسبة أو مرحلة زمنية والمطلق في الزمان كله. ويستطيع عالم اللغة المدقق أن يميز كل ذلك إذا تخلص من الأقوال والأحاديث الضعيفة والروايات التي تفصل النص عن صياغته اللغوية وتعطيه مفهوما لا يمت بصلة إلى تركيبه اللغوي ومعاني ألفاظه ، وهذا الأمر شائع بشكل مستفز في كل التفاسير التي كتبت في العصور السابقة ؛ وقد أدى ذلك إلى ظهور ما يسمى بعلم النسخ وهو اختراع شديد الخطورة ينم عن عجز من قالوا به عن فهم لغة القرآن ؛ وقد أدى القول به إلى ظهور وتمكن جماعات التطرف والإرهاب باستخدامه كسلاح يلغون به ما يدينهم ويرسخون ما يؤيدهم ؛ والبدء بالمنهج اللغوي سوف يسهم بفاعلية في تحديد المقصود الإلهي من النص ويربطه بأسباب نزوله وأحداث التاريخ وضرورات العصر وثوابت الدين وحقائق العقيدة وممارسات العبادة وقواعد السلوك ؛ وسوف يكون جزءا أساسيا في الرد العلمي على فكر التطرف وممارسات الإرهاب ودحض حججهم وبيان بطلان وخطأ ما يستندون إليه من مفاهيم ، ثم الانتقال إلى المناهج التالية للتجديد على أساس من المنهج اللغوي.