عشت عمري كله أقرأ أحداث التاريخ بنهم شديد وقرأت فيما قرأت أحداثا تكاد تكون متشابهة لحد الجنون وكأن التاريخ لا يتعلم أبدا ويصر أن يخرج لنا لسانه في كل مرة يكرر فيها نفسه أو أننا نحن الذين لا نتعلم أبدا ؟ حتى أحسب أن دجل الدجالين وأصحاب أوراق الطاروت لا يستعينون بجني مزعوم أو يستحضرون شياطينا يحاولون خرق السماء ليسترقوا السمع لأمر القدر الموكل لملاكه فينقلونه الى سحرتهم ليفتنوا به الساعيين لمعرفة المستقبل الغامض أمل الحائرين ورجاء المتهافتين – إنهم فقط يقرأون التاريخ ويستنبطون أحكامه وعجبت عندما عدت لطفولتي الأولى ووجدت أن أول محاولاتي الكتابية في سن مبكرة لا تتجاوز الثانية عشر هو كتاب صغير عن دورة التاريخ ؟ يا الله حدث صغير في مثل سني في هذا الوقت يكتب عن الدورات التي " لاحظتها " تتكرر في التاريخ القديم والحديث وكأنني أشاهد أستنساخ مكرر للأحداث في أجساد أناس جدد تحي أسطورة الهندوس التي بثوها في كتب أساطيرهم والهتهم الملونة بتاريخ عجيب لا يقرأ بما نقرأه من كلمات أو معاني جعلني ولسذاجتي المفرطة أتصور التاريخ رجلا عجوزا منكفئا على كتابه مصابا بالملل من حكايات البشر قاصدا النية في تكرار حكاياته مرة وراء مرة ،وغرمت بكتابات إيمانويل فلايكونسكي والذي ربما لا أؤمن بمعتقداته التوراتية كاملة. الا أنني تفتحت عيني على أطروحته وقرائته المختلفة للتاريخ المكتوب في كتابه المذهل " عصور في فوضى" من الخروج الى الملك أخناتون " وكتابه العجيب " عوالم في تصادم الكوارث الكونية والحضارة الفرعونية " والذي يعيد كتابة التاريخ بتحريك ستمائة عام كاملة من التاريخ وطرح تفاسير جديدة عبر حكايات مكررة في التاريخ البشري . ولاحظت خلال سنوات قرائتي المتواصلة النهمة تكرار الحكايات وإن إختلفت الأشخاص والمسميات ف " سيوزدا " السامري الذي أخبر بقرار مجمع الألهة بعقاب البشر بطوفان مدمر يستمر سبع أيام وليالي ليبني السوماري مركبا ينقذ به أهله الخاشعين هو نفسه " جلجاميش " البابلي الذي أمرته الألهة ببناء سفينة يحمل فيها بذرة من كل حي ليواجه طوفان بمركبه الذي يبلغ طوله مثل عرضه حتى يستوى على جبل نيصير أو هو الملك "اكسيسوثووس" الذي كان يرى في منامه أن الألهة تأمره ببناء سفينة طولها الف ومائة ياردة وعرضها اربعمائة واربعون يارده وهي طبعا نفس قصة النبي نوح عليه السلام. وكنت أسأل نفسي هل هم نفس الشخص أم أن الدنيا قد شهدت أكثر من طوفان ؟ وحكايات إنتصار رمسيس على شعوب البكتير (شمال أفغانستان) كأنني تماما أقرأ بالنص إنتصارات الإسكندر الأكبر على نفس الشعوب ؟ ولماذا أقرأ في كل تاريخ الشعوب القديمة حكايات عن طلوع الشمس من مغربها كالحضارة الفرعونية والصينية والهندية والمايا وأؤمن أيضا أنها ستحدث في نهاية الحياة وقبل القيامة الأخيرة للأرض ، ولا أعرف الان بعد كل هذه السنين التي مرت غرام التاريخ في تكرار تجاربه الأليمة في إحراق الكتب وكأنه يتقمص شخصية بن خلدون ناقما على أناسه الذين لا يفقهون كتبه فيحرقها سخطا ويلقيها من عليائه يأسا ، وأتعجب في نفس الوقت مندهشا من الحكايات المرتبطة بتلازمية حرق الكتب على مر العصور بالجيوش ؟؟ فهذا جيش يوليوس قيصر المحصور في أرخبيل الأسكندرية يدافع عن مملكة كليوباترا من أخيها بطليموس الرابع عشر فيأمر يوليوس العاشق بإحراق سفنه المائة فتهب الرياح الشمالية المجنونة حاملة نيران السفن لمكتبة الإسكندرية العظيمة فتحرقها عن أخرها دون قصد ، وتتلون مياه دجلة بالحبر الأسود من رفات ندائر مكتبة بغداد بعد أن أحرقها جنود هولاكو أو خزائن كتب الفاطمية النفيسة التي أكلتها نيران كتائب صلاح الدين الأيوبي وكيف تحولت جلد أغلفتها إلى أحذية انتعلها الحفاة . وحتى عندما يريد العقل البشري أن يفترى على حرق الكتب كان يأتي بجيش ليحرقه كما فعل المؤرخون مع أسطورة حرق جيش عمرو بن العاص لمكتبة الإسكندرية وينسب للخليفة العادل عمر بن الخطاب قولا ليس بقوله وعملا لا يجابل بخلقه " إن كانت نافعة فقد عوّضنا الله بكتابه الكريم. وإن كانت ضارّة فالنار أحقّ بها. التاريخ اليوم يعيد في رتابة نفسه وحريق نفائس الكتب وتاريخ الأمة في المجمع العلمي يدمي القلوب ويحرق تاريخ أمة برفسة البربر كما وصفها المفتي ، فما أنتجته عقول العلماء وخلاصة الفكر العالمي يضيع " واحسرتاه"في فعل الهمجية ولم تنفع الجيوش كما علمنا التاريخ في حماية الكتب أبدا وكأن وحداتها لا تعلم أن بإحتراق التاريخ فلا مستقبل للأمة ، ضاع في الهمجية ما مات عليه المفكرون يكتبون على الأضواء الخافتة للشموع رسائلهم الى الأجيال البائسة القادمة ومارسمه المؤرخون لحكايات الوطن في كتابات وصف مصر النادرة . مائتى الف كتاب لن تعوض أكلتها النيران التي حملتها أيدي الجهل ولم تحمها أو تطفئها الجيوش وما لا يقدر بثمن ضاع بدون أي ثمن وبدون محاولة للإنقاذ وعجبا أن أقنع الملك بطليموس الثالث حكام أثينا بإن يسمحوا له بإستعارة المخطوطات النادرة والأصلية لأعمال كتاب التراجيديا الكبار أمثال إسخولوس وسوفوكليس ويوريبيدس المحفوظة في خزائن أثينا لينسخها مقابل رهن خمسة عشر تالنتا من الفضة وهو ما يعادل ثروة بمقياس هذا العصر . لأنه لم يكن مسموحا على الإطلاق إعارتها فلما وصلت لخزائن مكتبة الإسكندرية بعث الملك بطليموس لأهل أثينا أن إحتفظوا بالمال فالكتب أهم منه فأحرقتها بعد قرون نيران أسطول قيصر لتتوسل له كليوباترا أن ينقذ جنوده المكتبة فأبى فالجيوش في عقيدته لا تطفئ نيران تشتعل في كتب وهكذا فعل نابليون الذي بعث للمجلس العسكري يستصرخه أن ينقذ المجمع العلمي صنيعته في مصر منذ مئتي عام فأسقط من يده ولم يتحرك ليطفئ النار في تاريخ الوطن ، فهل يستلم أبنائنا وطنا بلا تاريخ وتكون حجتنا أن الجيوش – كما تتكرر في دورات التاريخ المملة – لا يحمي الكتب ؟؟