الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعدمن فضل الله تعالي على عباده أن جعل لهم مواسم للطاعات تتضاعف فيها الحسنات، وترفع فيها الدرجات، ويغفر فيها كثير من المعاصي والسيئات، فالسعيد من اغتنم هذه الأوقات وتعرض لهذه النفحات. جاء في الحديث الذي أخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اطلبوا خير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، فاسألوا الله أن يستر عوراتكم ويُؤمِّن روعاتكم" . ومن مواسم الطاعات و الأوقات المباركة يوم عرفه وهذا اليوم من بركاته ونفحاته. ومن فضائل يوم عرفة أنه يوم تنزل الرحمات والمغفرة وحصول الصغار والذلة للشيطان عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :(( مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ ، وَلا أَدْحَرُ ، وَلا أَحْقَرُ ، وَلا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَمَا ذَاكَ إِلا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ ) رواه مالك في الموطأ ، قال البيهقي في فضائل الأوقات (181) : مرسل حسن ، وقال الزيلعي في تخريج الكشاف (2/32) مرسل صحيح . فها هو الشيطان قد اسود وجهه، وخاب سعيه، وأهوى يحثوا التراب على رأسه، ويدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور!!إنه الشيطان اللعين، يغيظه ما يرى من اجتماع المسلمين في عرفات، وما يتنزل عليهم من مولاهم من رحمات، فتغلي مراجل غضبه، وينكسر خاسئًا ذليلًا. فينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا عشية عرفة ويباهى تبارك وتعالى ملائكتة بأهل عرفة ويغفر لهم ذنوبهم عن جابر رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم :(( ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ، ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا ، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء ، فيقول : انظروا إلى عبادي ، جاؤوني شعثًا غبرًا ضاجِّين ، جاؤوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ، ولم يروا عقابي ، فلم يُرَ يومًا أكثر عتقًا من النار ، من يوم عرفة )) رواه ابن خزيمة و ابن حبان و البزار و أبو يعلى و البيهقي ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/253) : رواه أبو يعلى وفيه محمد بن مروان العقيلى وثقه ابن معين وابن حبان وفيه بعض كلام ، وبقية رجاله رجال الصحيح. وقَالَتْ عَائِشَةُ : (( إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ )) رواه مسلم فالله تعالى يباهى ملائكته بأهل عرفه ويكثر العتق من النيران فى هذا اليوم. فالله تعالى يغفر لهم على كثرة ذنوبهم عن ابن عمر رضي الله عنهما في حديث الرجلين اللَّذين جاءا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسألانه عن أمر دينهم، وكان من جوابه لهما : (( وأما وقوفك بعرفة ، فإن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا ، فيباهي بهم الملائكة ، فيقول : هؤلاء عبادي جاؤوا شعثًا غبرًا من كل فج عميق ، يرجون رحمتي ، ويخافون عذابي ، ولم يروني فكيف لو رأوني ، فلو كان عليك مثل رمل عالج ، أو مثل أيام الدنيا ، أو مثل قَطر السماء ذنوبًا ، غسلها الله عنك )) رواه عبدالرزاق في مصنفه ، وابن حبان في صحيحه وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2/9). ومن حديث عبادة بن الصامت قال فيه (( .. وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل يقول لملائكته يا ملائكتي ما جاء بعبادي قالوا جاؤوا يلتمسون رضوانك والجنة فيقول الله عز وجل فإني أشهد نفسي وخلقي أني قد غفرت لهم ولو كانت ذنوبهم عدد أيام الدهر وعدد رمل عالج.. الحديث)) رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1113). وهذه المغفرة ليست خاصة بالنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بل هى عامة تشمل المسلمين الى يوم القيامة وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : (( وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات ، وكادت الشمس أن تؤوب ، فقال : يا بلال انصت لي الناس ، فقام بلال فقال: انصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصت الناس ، فقال : معاشر الناس، أتاني جبريل آنفًا ، فاقرأني من ربي السلام وقال : إن الله غفر لأهل عرفات وأهل المشعر ، وضمن عنهم التبعات ، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال : يا رسول الله هذا لنا خاص ؟فقال : هذا لكم ولمن أتى بعدكم إلى يوم القيامة ، فقال عمر رضي الله عنه: كثر خير الله وطاب )) رواه ابن عبدالبر ، وابن المبارك ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2/16). وهذه المغفرة لهم ولمن يشفعون فيه عن أنس رضي الله عنه قال: (( كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف قاعدًا، فأتاه رجل من الأنصار، ورجل من ثقيف، فذكر حديثًا فيه طول وفيه : (( وأما وقوفك عشية عرفة، فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا، ثم يباهي بكم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاءوني شعثًا سفعًا، يرجون رحمتي ومغفرتي؛ فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، وكعدد القطر، وكزبد البحر، لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفورًا لكم، ولمن شفعتم له )) رواه ابن عبدالبر في التمهيد والحديث له شواهد كثيرة وانظر ما قبله. قال ابنُ عبدُ البر : وهذا يدلُ على أنهم مغفورٌ لهم لأنه لا يباهي بأهل الخطايا إلا بعد التوبة والغفران والله أعلم . قال ابن القيم رحمه الله : " أنه في يوم عرفة يدنو الرّبُّ تبارك وتعالى عشيةَ مِن أهل الموقف ، ثم يُباهي بهم الملائكة فيقول : (مَا أَرَادَ هؤُلاءِ، أُشْهِدُكُم أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُم) وتحصلُ مع دنوه منهم تبارك وتعالى ساعةُ الإِجابة التي لاَ يَرُدُّ فيها سائل يسأل خيرًا فيقربُون منه بدعائه والتضرع إليه في تلك الساعة. ولذلك أفضل الدعاء للإنسان يكون فيه عن عبدالله بن عمرو بن العاص أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :((خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) رواه الترمذي وحسنه الألباني في صحيح الترمذي . فهذا الدعاء بعينه هو أفضل ما يمكن أن يدعو به المرء في هذا اليوم ، وذلك لأن فيه الثناء على الله تعالى وتوحيده جل وعلا فخير الدعاء في خير الأيام. ولذلك جعل الله صيام يوم عرفة يكفر سنتين وصيام يوم عرفة ( لغير الواقف على عرفات ) وهذا من فضل الله العظيم على هذه الأمة ، فمن لم يكن من أهل الحج ، فله أيضًا نصيبًا في الخير وهو نصيب عظيم ، ولقد حث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على صوم يوم عرفة، لأن من صام يوم عرفة كفر الله عنه خطايا سنتين ، سنة ماضية وسنة مستقبلة فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ ؟ فَقَالَ : يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ )) رواه مسلم. وفى رواية أخرى عَنْ أَبِي قَتَادَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ َقال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ إني أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ )) رواه مسلم قال الطيبي رحمه الله تعليقًا على الحديث: وكان القياس أن يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أرجو من الله " موضع كلمة "أحتسب" وعدّاه بعلى التي للوجوب علي سبيل الوعد مبالغة في تحقيق حصوله". ولذلك يستحب في يوم عرفة حفظ الجوارح من المحرمات في هذا اليوم: عن ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : (( كَانَ فُلانٌ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ ، قَالَ : فَجَعَلَ الْفَتَى يُلاحِظُ النِّسَاءَ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَهُ بِيَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ مِرَارًا ، وَجَعَلَ الْفَتَى يُلاحِظُ إِلَيْهِنَّ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ابْنَ أَخِي إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَلِسَانَهُ غُفِرَ لَهُ)) رواه أحمد (2884) ، وقال الشيخ أحمد شاكر في المسند (5/17) : إسناده صحيح ، والحديث صححه الهيثمي والمنذري وغيرهما .