أشهر قليلة فصلت بين هجمات باريس التي وقعت في نوفمبر الماضي وهجمات بروكسل مؤخرًا. وإن كان تقارب التوقيت بين الحادثين الإرهابيين له مدلول، فإن مدلوله الوحيد هو أن القارة الأوروبية أصبحت واجهة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها داعش، بعد أن عبثت القارة العجوز بأمنها أولًا من خلال المساهمة عبر السنوات الماضية في دعم التنظيمات الإرهابية بالمال والسلاح، حتى ارتد عليها اليوم؛ لتكتشف القارة الأوروبية عجزها عن حفظ اسقرار وأمن مواطنيها. مع تزايد الضغط على تنظيم داعش في معاقله، سواء سوريا أو العراق أو ليبيا، بدأ البحث عن تأسيس فروع جديدة له في دول أخرى، ولم يجد أفضل من الدول التي دعمته في البداية، فقرر التنظيم الإرهابي نقل المعركة إلى خارج حدود الشرق الأوسط؛ ليضرب في أعماق القارة الأوروبية، التي شجعت التطرف منذ سنوات بسياساتها الخاطئة. أخذت فرنسا نصيب الأسد من الهجمات الإرهابية في القارة الأوروبية، حيث جاءت الضربة الأولى في مارس عام 2012، في مدينتي تولوز ومونتوبان جنوبفرنسا، وقُتِل خلالها ثلاثة عسكريين بالرصاص و3 أطفال ومدرس في معهد "أوزار هتوراه" اليهودي، قبل أن تقتل الشرطة الفرنسية منفذ الهجومين "محمد مراح"، الذي ينتمي لتنظيم القاعدة في ذات الشهر، وهو الحادث الذي أثار الرعب في فرنسا من عودة المتطرفين الذين انضموا إلى تنظيم القاعدة وداعش في سوريا إلى بلادهم، خاصة بعد معرفة السلطات الفرنسية أن منفذ الهجومين فرنسي من أصل جزائري. وتزامن الحادث أيضًا مع إجراء الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي فاز فيها الرئيس "فرانسوا أولاند". وفي مايو عام 2014 طالت يد الإرهاب بلجيكا، عندما أطلق المنفذ الفرنسي من أصل جزائري "مهدي نموش" النار في بهو المتحف اليهودي في بروكسل، وتسبب في مقتل أربعة أشخاص، منهم زوجان إسرائيليان، واعتُقِل في جنوبفرنسا وسُلم إلى بلجيكا. وفي يناير عام 2015 عادت الهجمات الإرهابية لتستهدف فرنسا من جديد، عندما هاجم الشقيقان سعيد وشريف كواشي صحيفة "شارلي إيبدو" الساخرة، وقتلا 12 شخصًا، وأصابا حوالي 20 آخرين. وتبنى تنظيم القاعدة في جزيرة العرب العملية، وتزامنت العملية مع هجوم على متجر يهودي بمنطقة بورت دو فانسان، شرق العاصمة الفرنسية باريس، واحتجز خلالها المهاجم الرهائن داخل المتجر، وانتهت العملية بمقتل المهاجم "أميدي كوليبالي" وأربعة رهائن وإصابة أربعة آخرين بجروح. وفي نوفمبر الماضي تعرضت فرنسا لأسوأ الهجمات الإرهابية في تاريخها، من خلال القيام بعمليات انتحارية للمرة الأولى متزامنة مع عمليات إطلاق نار، حيث وقعت اعتداءات باريس في قاعة الحفلات بمسرح باتاكلان، وفي عدد من الحانات والمطاعم في وسط العاصمة، وقرب "ستاد دو فرانس" في سان دوني، وأسفرت جميعها عن مقتل 130 شخصًا وأكثر من 350 جريحًا، وأعلن تنظيم داعش حينها مسؤوليته. لم يمر كثير حتى جاءت هجمات بروكسل؛ لتؤكد للأوروبيين أن الإرهاب بات في عقر دارهم، وأن هناك خلايا كبيرة للتنظيم الإرهابي في عدد من الدول الأوروبية، تمتلك الأموال والإمكانات التي تؤهلها للتخطيط وتنفيذ الهجمات باحتراف في الداخل الأوروبي. ظنت الدول الأوروبية قبل هذه الحوادث الإرهابية أنها بمنأى عن الإرهاب، وأخذت تردد أن متطرفي التنظيمات الإرهابية لن يستطيعوا تهديد أراضيها، متناسية أنها بعثت بآلاف المتطرفين للانضمام إلى داعش ودعم سياساتها، وإن كان الأمر لم يتم بشكل مباشر، إلا أن صمت حكومات هذه الدول ورؤسائها على انضمام مواطنيها وعدم اتخاذ الإجراءات التي تمنع انضمامهم للتنظيمات الإرهابية يعتبر خطوة في طريق دعم هذا الإرهاب، فلم تحسب هذه الدول حساب عودة مواطنيها الذين انضموا للتنظيمات الإرهابية، ليبثوا إرهابهم في دولهم مثلما حدث في هجمات باريس التي دبرها الإرهابي "عبد الحميد أباعود" البلجيكي الجنسية ذو الأصول المغربية، والذي انتقل إلى سوريا في 2014؛ ليعود إلى فرنسا قبل أيام من الهجمات عن طريق بلجيكا. وأكدت تقارير أوروبية وجود حوالي 6 آلاف شخص خرجوا من أوروبا للمشاركة في القتال بسوريا وليبيا على مدى ال 5 سنوات السابقة، عاد منهم عدد كبير إلى الداخل الأوروبي تحت غطاء المهاجرين غير الشرعيين، كما عاد عدد كبير عبر جوازات سفر مزورة من ليبيا، وهو ما أكده المعهد البولندي للشؤون الدولية في تقرير له، حيث قال إن عدد المقاتلين الأجانب في صفوف التنظيم يبلغ 30 ألف مقاتل قادمين من 86 دولة، وجاءت فرنسا في مقدمة الدول الأوربية بنحو 1700 مقاتل، تبعتها بريطانيا ب 760 مقاتلًا. وأكدت مصادر أمنية لوكالة "أسوشيتد برس" أن داعش درّب 400 مقاتل على الأقل؛ من أجل إرسالهم إلى أوروبا؛ لتنفيذ هجمات إرهابية، وأشارت الوكالة إلى وجود معسكرات مصممة خصيصًا للتدريب على شن هجمات ضد الغرب، ووصفت المصادر شبكة الخلايا التي زرعها داعش في الدول الأوروبية بالمتشابكة والرشيقة وشبه المستقلة، وهو الأمر الذي يبين تقدم التنظيم في أوروبا بعدما تراجع في سوريا.