تمهيد اخترت أن أعود للكتابة لصحيفة "البديل" بعدة موضوعات تتصل بالتأسيس لموضوع الاستبداد والطغيان ومعارضته، وهو عندي موضوع الساعة عند المهتمين بالشأن العام في مصر، ولكن من دون الدخول في خصوصية الوضع المصري حاليا. وستتعرض موضوعات تالية للأوضاع في مصر بصورة مباشرة وتنتهي باقتراح لميثاق لنصرة الثورة الشعبية العظيمة التي شهدنا موجتها الأولى في 25 يناير 2011، والعمل على نيل غاياتها في الحرية والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية للجميع على أرض مصر. (1) طبائع الاستبداد للعلامة الكواكبي لا أملّ من العودة لكتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" للعلامة الجهبذ عبد الرحمن الكواكبي، كلما خطر لي خاطر عن تجليات الحكم التسلطي في مصر أو الوطن العربي، على الرغم من مرور قرابة مائة عام على صدوره. وقدلا يعلم القارئ أن الكواكبي، العروبي الإسلامي سوري المولد، قد أصدر عمله الفكري القيّم أولا في مصر كمقالات متفرقة بالصحف في عهد الخديوي عباس حلمي، ثم جمعها ونقحها وأصدرها في كتاب طبع بمطبعة الجمالية بحارة الروم، تحت الإسم المستعار"الرحالة ك". وطابع الأعمال التاريخية القيمة، فعلى الرغم من مرور كل ذلك الوقت فما زال مضمون الكتاب معاصرا. وهو دليل وافٍ على عظمة المحتوى والمؤلف في آن. وأورد فيما يلي مقتطفات من هذا الكتاب القيّم، بلغته الأصلية والتي قد يبدو بعضها مستغربا اليوم، ومن دون أي تدخل مني إلا بالانتقاء ووضع المقتطفات في قالب المقال، وإبراز بعض العبارات التي وجدتها مهمة بوجه خاص في أحوال مصر وباقي البلدان العربية، وكلها توجب على الناس مقاومة الاستبداد والطغيان. وأكاد اقرأ في المختارات التالية من النص العظيم توصيفا دقيقا لحال مصر تحت الحكم العسكري الراهن، وعلاجا شافيا للغُمة الحالة بأهل مصر من جرائه. ويطيب لي بداية، أن أبدي الإعجاب بعنوان كتاب الكواكبي البليغ الذي جمع بين مساوئ الاستبداد وسبل مقاومته. ثم بالعنوان الفرعي للعمل: "وهي كلمات حق وصيحة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح، لقد تذهب غدا بالأوتاد." في تأكيد على أهمية العمل الفكري، حتى وإن بدا قليل الجدوي في القريب العاجل. عن هذا التضاد الفصيح في عنوان العمل ومضمونه، الطبائع والمصارع، يخبرنا الكواكبي في بدايات النص. يقول المادي: الداء القوة والدواء المقاومة؛ ويقول السياسي: الداء استعباد البرية والدواء استرداد الحرية؛ ويقول الحكيم: الداء القدرة على الاعتساف والدواء الاقتدار على الاستنصاف. ويقول الحقوقي: الداء تغليب السلطة على الشريعة والدواء تغليب الشريعة على السلطة. ويقول الرباني: الداء مشاركة الله في الجبروت والدواء توحيد الله حقا. هذه أقوال أهل النظر. وأما أهل العزائم – فيقول الأبيّ: الداء مد الرقاب للسلاسل والدواء الشموخ عن الذل؛ ويقول الشهم: الداء التعالي على الناس باطلا والدواء تذليل المتكبرين؛ ويقول المتين: الداء وجود الرؤساء بلا زمام والدواء ربطهم بالقيود الثقال. ويقول المفادي: الداء حب الحياة والدواء حب الموت. ماهو الاستبداد؟ الاستبداد لغة هو اقتصار المرء على رأي نفسه فيما تنبغي الاستشارة فيه، أي في الشأن العام لعموم الناس. الاستبداد صفة للحكومة مطلقة العنان التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين. وصفة الاستبداد كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة، تشمل أيضا الحاكم الفرد المقيّد الوارث او المنتخب متى كان غير محاسب. وكذلك تشمل حكومة الجمع ولو منتخبا لأن الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد وإنما قد يعدله نوعا وقد يكون أحكم وأضر من استبداد الفرد. ويشمل ايضا الحكومة الدستورية المفرّقة فيها قوة التشريع عن قوة التنفيذ لأن ذلك أيضا لا يرفع الاستبداد ولا يخففه ما لم يكن المنفذون مسئولين لدى المشرعين وهؤلاء مسئولون لدى الأمة التي تعرف أن تراقب وأن تتقاضى الحساب. وخلاصة ما تقدم أن الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة التي لا تسامح فيها. ومن الأمور المقررة أنه ما من حكومة عادلة تأمن المسئولية والمؤاخذة بسبب من أسباب غفلة الأمة أو إغفالها لها إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد ويعد ان تتنمكن فيه لا تتركه وفي خدمتها شيء من القوتين الهائلتين المهولتين: جهالة الأمة والجنود المنظمة. ويشيد الكواكبي بالحكم الديمقراطي في انجلترا حينئذ بسبب يقظة الإنجليز الذين لا يسكرهم انتصار ولا يخملهم انكسار، ثم يسارع إلى التحذير من أن هذه حضرة الملكة فيكنوريا لو تسنى لها الاستبداد الآن لغنمته ولو لأجل عشرة أيام من بقية عمرها. ولكن هيهات أن تظفر بغرة من قومها تستلم فيها زمام الجيش. ويخبرنا الكواكبي عن سمات المستبدين. المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإراداتهم ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته. المستبد عدو الحق عدو الحرية وقاتلهما، والحق ابو البشر والحرية امهم، والعوام صبية ايتام لا يعلمون شيئا والعلماء هم اخوتهم الراشدون إن ايقظوهم هبوا وإن دعوهم لبوا. المستبد يتجاوز الحد لأنه لا يرى حاجزا. فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفا لما اقدم على الظلم، وكما قيل الاستعداد للحرب يمنع الحرب. والمستبد يريد ان تكون رعيته كالغنم دَرّا وطاعة وكالكلاب تذللا وتملقا. وعلى الرعية أن تكون كالخيل إن خُدمت خدَمت وإن ضُربت شرست. بل عليها أن تعرف مقامها: هل خلقت خادمة للمستبد أم هي جاءت به ليخدمها فاستخدمها؟ ولو كان الاستبداد رجلا واراد أن يحتسب وينتسب لقال أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة وأخي الغدر وأختي المسكنة وعمي الضر وخالي الذل وابني الفقر وبنتي البطالة ووطني الخراب وعشيرتي الجهالة. إن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان، فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم وحصر الرعية في حالك الجهل. وكذلك بعض العلماء الذين ينبتون في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس. والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم. فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا سب ان كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام وأكثر العلماء الأعلام والأدباء النبلاء تقلبوا في البلاد وماتوا غرباء. وبعد توصيف ظاهرة الاستبداد وتشريحها، يوجه الكواكبي لقومه النداء التالي.