تمتاز الكثير من المهن والحرف بمميزات فريدة من نوعها تداولها الناس عبر عشرات السنين، ولكنها ترحل أحياناً، بمجرد رحيل صاحبها. مهنة الحلاقة التي امتلأت بمزايا عديدة منذ القدم، ومارسها أصحابها لسنوات طويلة، ثم توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد كانت على شفا حفرة من النسيان، إلا أنَّ أصحاب هذه المهنة يصممون في كثير من الأحيان على إبقائها حية كموروث عن آبائهم وإحياء لتاريخهم، وإثباتاً لأرضهم ووطنهم أيضاً. كوافير الرجال، محمد أنور بكير في الثلاثينيات من العمر أحب مهنته التي أخذها عن والده حيث يعمل معه منذ صغره وأتقن العمل بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة، وانضم إلى الركب بعد ذلك الأخ الأصغر له، فقرر أنْ يجمع هذا التاريخ العريق في موسوعةٍ أطلق عليها اسم "الموسوعة التاريخية لمهنة الحلاقة" وتضم هذه الموسوعة تاريخ المهنة وأسرارها. وتعتبر هذه الموسوعة هي الأولى على مستوى فلسطين التي تروي أسرار الحلاقين في قطاع غزة، وعن فكرة إنشاء الموسوعة، يقول محمد في لقاء خاص مع البديل: "الفكرة بدأت قبل ثلاثة أعوام، حيث كان لدي حب استطلاع قوي، ولدي طاقة كبيرة للقراءة والمطالعة وخاصة الكتب الكبيرة والقديمة؛ فقمت بزيارة لأكبر ثلاث مكتبات في مدينة غزة وهي مكتبة بلدية غزة ومكتبة الجامعة الإسلامية ومكتبة جامعة الأزهر والعديد أيضاً من المكتبات التجارية، فلم أجد أي شيء يخص مهنة الحلاقة في مدينة غزة ولا كيف كان الحلاق –أو ما يُعرف بالمزيِّن- يُطهِّر ويخلع الأسنان ويعالج الخوف ويداوي الجروح ويخرق أذن الأطفال المواليد، و كيف كان يحلق بالماكنة القديمة، أيضاً كانوا يسنون الموس القديم، وكل ما وجدته هو ذكر بعض أسماء الحلاقين وخاصة الذين هاجروا عام 1948م وهي كتب من تأليف وإعداد الدكتور رشاد المدني". منذ عام 2013م بدأ محمد بكير البحث عن الحلاقين وكيف كانت الحياة، ويفيد بكير أنَّ الذي كان يرشده إلى المعلومات هم حلاقو عام 1970 وما فوق. ويتابع بكير: "جلست مع أقدم عشرة حلاقين في مدينة غزة وهم كبار في السن، وتمكنت من الوصول لأقدم حلاق في مدينة غزة وهو الحلاق/ إسماعيل الخطيب أبو هاني حيث أمضى بهذه المهنة ما يقارب 65 وما زال على رأس عمله في دكانه القديمة. بحمد الله تمكنت من جمع ما يقارب 80 تسجيل صوتي لقدماء هذه المهنة وتمكنت من إحصاء أقدم 140 حلاق عمل بهذه المهنة منذ عام 1945م حتى 1995م. ومما لا شك فيه أنَّ فترة تأليف الكتاب وإعداده تخللها توقف لعدة أسابيع وهي فترة العدوان على قطاع غزة وأيضاً الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي". ويضيف بكير للبديل: "تمكنت من إعداد وتأليف هذا الكتاب بجهد شخصي دون مساعدة من أحد من الكتاب والمؤلفين، وبحمد الله تمكنت من إنجازه خلال ثلاثة أعوام من البحث الميداني وزيارة بيوت كل من له صلة بهذه المهنة منذ عام 1945م حيث تمكنت من زيارة أبناء من توفاهم الله وسجلت سيرتهم التاريخية في مهنة قص الشعر وحصلت على صور نادرة لهم أثناء العمل وحصلت على أدواتهم القديمة التي عاشت معهم أكثر من 40 عام حيث جمعت ما يقارب 17 قطعة قديمة من الماكينة القديمة والموس القديم حيث قمت بتأسيس متحف تراثي داخل صالون الرمال للرجال". وعن محتوى هذه الموسوعة فأنها تحتوي على مقدمة لتاريخ مدينة غزة منذ عام 1918م ويحتوي على مقدمة عن تاريخ حلاقي مدينة غزة عبر العصور ويحتوي على صور لأماكن الحلاقين وشكل الدكاكين والصالونات قديماً أي منذ عام 1945م. ويحتوي على شرح كامل عن سبب تسمية الحلاق بهذا الاسم ومتى بدأ كلمة كوافير ومزيِّن والعديد من الفصول. ومن يقرأ هذا الكتاب سيتعرف على الحلاق الشخصي للعديد من الشخصيات السياسية والاجتماعية والأكاديمية ومن لهم مكانة في المجتمع حيث الكثير من الحلاقين الذين سجلت سيرتهم التاريخية ذكر أهم الشخصيات التي قص شعره. وأما عن الهدف من إنشاء هذه الموسوعة فيقول محمد للبديل: "الهدف من تأليف الموسوعة أن كل حلاق يعيش بهذه المهنة 30 أو 40 أو 50 عام وعندما يرحل عن الحياة ترحل أسراره وأسرار مهنته معه، فلمهنة الحلاقة مكانة عالية في المجتمع، وهي مهنة لم يستغني عنها أي إنسان، فقديماً كان الحلاق يعرف بأنه يمتلك أسرار الحارة وهو عنصر مهم بالمجتمع لذلك أحببت بل قررت أن أحفظ تاريخ الأجداد والآباء، وأنْ أحفظ قصصهم وتاريخهم الحافل بالعطاء والتضحيات". وأضاف بكير: "أريد أن أوصل من خلال هذه الموسوعة رسالتين، الرسالة الأولى هي رسالة تحدي بأنَّ شعب فلسطين وأهل مدينة غزة لن ينسوا ماضيهم وهم محافظون على ثوابت وطنهم سواء الثوابت السياسية أو التاريخية، فهذه الموسوعة هي بمثابة حفاظ على الماضي وعلى جذور الوطن. أما الرسالة الثانية فهي للجيل الجديد من أصحاب الصالونات أقول لهم حتى وإن تفوقت في تعلم وإتقان قص وتصفيف الشعر وفن التجميل لا بد لك أن تتعلم وتتقن من منَ لهم باع طويل في هذه المهنة عبر التاريخ، لا بد أن تتعلم كيف تحافظ على المجتمع وعلى هذه المهنة التاريخية من خلال ما مروا به من تجربة رائعة في الحياة من خلال هذه المهنة. بالرغم من أهمية الموسوعة ومدى الحاجة لكل كتاب يحفظ التراث الفلسطيني، إلا أنه لم يجد حتى اللحظة من يدعم ويساند طباعة هذا الكتاب لأنَّ الكتاب جاهز ولم يطبع بعد، ووجه الكوافير محمد بكير دعوة لجميع دور النشر سواء في فلسطين أو في خارج فلسطين أو أي شركة أو مؤسسة أو جامعة لرعاية طباعة هذه الموسوعة وأنه لا يريد ثمن مادي لأنَّ الهدف هو أن ترى هذه الموسوعة النور، ولكن حتى اللحظة.. لا مجيب.