واحد من أشهر الزعماء الذين أنجبتهم القارة السمراء، خلال فترات التحرر الإفريقي من الاستعمار، والمرتبط زمنيًّا برغبة كل الدول الإفريقية، لم يكن مجرد رئيس لبلد صغير اسمه "تنزانيا"، بل أحد أكبر رموز وحدة الأفارقة ودعاتها منذ 1963، حيث كان ينادي دائمًا بشعار الوحدة الإفريقية، مدافعًا عن قضايا القارة، في مختلف أروقة المحافل العالمية، ومن أبرز نشطاء حركة عدم الانحياز خلال سنوات الخمسينيات والستينيات. جوليوس كامبراكه نيريري الذي ولد في مارس 1922م، بقرية (بوتياما) القريبة من بحيرة فيكتوريا، ينحدر من قبيلة (زانكي) التي تعمل بالرعي تلقى تعليمه الأولي فى بلدة (موسوما) ثم انتقل إلى مدرسة (تابورا) الثانوية التابعة للكنيسة الكاثوليكية، ومنها إلى كلية (ماكيريري) بأوغندا حيث حصل على دبلوم فى التربية، ثم سافر لإكمال دراسته العليا في كلية (أدنبرة) البريطانية، عقب عودته من إنجلترا عمل نيريري بالتدريس في كُلية (سان فرانسيس) في مدينة (يوكو) فعمل بتفان وجد وجاهد من أجل محو الأمية المنتشرة بين مواطنيه، متحليًا بالصبر في سبيل تأدية رسالته التعليمية على أكمل وجه. عايش نيريري كغيره من مواطني تنجانيقا ذل ومرارة الاستعمار الإنجليزي لبلاده، وشعر بأن عليه دورًا كبيرًا تجاه وطنه فانخرط في العمل السياسي إضافةً إلى التعليم، وبمرور الوقت أشغلته السياسة بمتاعبها، وثقلت أعباؤه ففضل ترك التدريس ليتفرغ للعمل السياسي، في عام 1954م أسس نيريري حزب تنجانيقا الوطني الإفريقي (تانو) الذي هدف إلى الدعوة للتحرر السلمي؛ فاستطاع نيريري استقطاب العناصر المثقفة فى بلاده، وأصبح ذا تأثير قوي بين الجماهير، ركز نيريري على ضرورة التخلص من كل أشكال التمييز والانعزالية والقبلية فى بلاده؛ من أجل تحقيق التكاتف الوطني، والمطالبة بمشاركة مواطنيه في أجهزة الدولة والحكم. لم تكن مهمة نيريري باليسيرة، إذ كانت سلطات الاستعمار فى تنجانيقا حجر عثرة أمام توحيد صف الجماهير، خاصة أن السياسة البريطانية كانت تُكرس القبلية وتُشجع الزعامات التقليدية فى إفريقيا، لكن نيريري أصر على مقاومة هذا التيار ودفع الشعب إلى التخلي عن العادات والالتزامات القبلية. نجح نيريري في توسيع دائرة نشاط حزبه بحيث شملت المناطق والفئات الريفية والعمالية، بعد أن كانت قاعدة الحزب الواسعة تعتمد على سكان المدن، كما استطاع كسب نقابات العمال التي كان ظهورها قد تبلور منذ عام 1947م عقب عودة الجنود من الحرب العالمية الثانية. لم يُطالب نيريري فى بداية رحلة الكفاحية بالاستقلال، مُفضلًا إحداث ثورة دستورية تُتيح ظهور أجهزة يُعبر الشعب من خلالها عن إرادته، وبالتالي تتسع دائرة التمثيل الإفريقي، الأمر الذي اضطر الحاكم البريطاني إلى زيادة عدد الأعضاء الأفارقة فى الجمعية التشريعية، وبالتدريج أخذ نيريري في الدعوة إلى الاعتراف بحق تنجانيقا فى الحكم الذاتي، وطالب بريطانيا بتحديد موعد للاستقلال، مما دفع سُلطات الاحتلال إلى القبض عليه وسجنه؛ فزادت شعبية نيريري بين مواطنيه. حاولت بريطانيا إثارة الفتنة بين أفراد الشعب فى تنجانيقا، فعملت على تأسيس حزب منافس لحزب تانو الذي يتزعمه نيريري بعد أن سمحت بالاشتراك فيه لكل الأجناس التي تسكن البلاد، إلَّا أن نيريري فاجأها بأن فتح أبواب حزبه هو أيضًا أمام جميع الأجناس، وطالب مجلس الوصاية بأن يعترف بحزبه كمُمثل شرعي لشعب تنجانيقا، واقترح بأن تحصل بلاده على الاستقلال عام 1959م، فلما رُفض طلبه استقال من المجلس التشريعي الذي كان قد انضم إليه عام 1957م، وعندما أُجريت انتخابات 1959م استطاع حزب نيريري الحصول على شعبية مُنقطعة النظير، فاستحال على بريطانيا إنكار أن الحزب لسان حال شعب تنجانيقا، أدركت الحكومة البريطانية أنه لابد من إزالة الحواجز أمام التمثيل الديمقراطى فى تنجانيقا، وفي عام 1961م حصلت تنجانيقا على الاستقلال وأصبح نيريري رئيسًا للوزراء لكنه لم يمكُث في هذا المنصب طويلًا وتركه ليتفرغ لتنظيم حزبه وتفعيل دوره السياسي. في عام 1964م تم إعلان الاتحاد بين تنجانيقا وجارتها (زنجبار) التي كانت قد حصلت على استقلالها عام 1963م فتوحد البلدان في دولة واحدة سميت ب(تنزانيا) وأنتُخب جوليوس نيريري رئيسًا لها وعبيد كرومي رئيسًا زنجبار نائبًا للرئيس، ظل نيريري يحتفظ برئاسة الجمهورية بفضل التأييد الشعبي الذي كان يحظى به، ورغم محاولات التآمر الخارجي للإطاحة به، إلَّا أنه كان يقظًا وحازمًا في مواجهتها. كان نيريري غيورًا على كرامة الأفارقة وشرفه، ومدافعًا عن قضاياهم في كل المحافل الدولية، وظل نيريري يمارس عمله بهمة وإخلاص، حتى عام 1985م حيث تخلى طواعية عن منصب رئاسة الجمهورية التنزانية، وفي الرابع عشر من أكتوبر عام 1999م توفى عن عمر ناهز 77 عامًا، بعد مسيرة حافلة بالعطاء والتضحية من أجل رفعة وكرامة بلاده والأفارقة جميعًا.