انطلاقا من هوسها الشخصي بسندريلا الشاشة العربية، قدمت المخرجة اللبنانية رانيا اسطفان، وثيقة سينمائية شاعرية عن زمن نجوم، حفظه شريط السينما، في فيلمها الوثائقي التجريبي "اختفاءات سعاد حسني الثلاثة" 69 دقيقة، إنتاج 2011، عرض في سينما زاوية الأسبوع الماضي، مفتتحًا فعاليات برنامج "مزج" للفيلم الوثائقي. اعتمد بحث المخرجة في تحليل شخصية سعاد حسني، من خلال أدوارها المختلفة، على التداخل بين الواقع والخيال، لتلغي المسافات بينهما، ولم تنشغل بتصنيف فيلمها وثائقي أو تجريبي، باعتماد كلي على أفلام السندريلا، فلم تستعن بأي مادة من خارجها، عدا شريط الصوت أو الصورة والموسيقي، كما أنها اعتمدت على شرائط الفيديو التي توقف استخدامها حاليًا، فيما تعاملت مع الأفلام بحرية كبيرة، في إعادة التركيب للمشاهد المتداخلة وللصوت والموسيقي لتقديم مشاهد جديدة تحكي من خلالها عن «سعاد» وترصد تحولات شخصية الممثلة في أدوارها المختلفة، وتقدم سيرة خيالية للسندريلا، تراوح في وجدان الجمهور مابين مسيرتها الفنية كممثلة وشخصياتها المختلفة وسيرتها الشخصية انتهاءً برحيلها المأساوي في لندن. استعانت «اسطفان» بأصوات من أفلامها التي ناقشت قضايا ذات أبعاد نفسية، فنشاهد «سعاد» على سرير العلاج النفسي، تتساءل عن ذاتها في مشاهد من أفلام "أين عقلى"، "الحرمان" و"الاختيار"، فيما تتواصل الأحلام والكوابيس على مدار الفيلم، انتهاءً بالموت بمشهد السقوط ثم المشرحة ،كأن الممثلة تطل من سرير علاجها النفسي علي حياتها الشخصية من الخارج. يقوم الفيلم على بناء فني يمثل التراجيديا بالمفهوم المسرحي الإغريقي القديم، إذ تتكون من 3 فصول ومقدمة وخاتمة، في الجزء الأول منها مرحلة/ صورة الفتاة المنطلقة المرحة المقبلة على الحياة، في مرحلتها الأولى سينمائيًا، وهي المرحلة التي تحتفي بكل صور البدايات. الجزء الثاني يصور مرحلة الوسط في مسيرتها الفنية، وتقديمها سينمائيًا بشكل يعتمد بدرجة أكبر على الحفاوة بالجسد، فيما تحتفي المخرجة بمشاهد القبلات كأنها رد على الرقابة التي تفرضها الفضائيات عند عرض الأفلام القديمة على المشاهد العاطفية، وهي مرحلة فنية شهدت عدة تناقضات، ما بين استغلال «سعاد» كجسد يتمتع يالجاذبية الجنسية، وفي الوقت ذاته، تشير إلى استنزاف الممثلة في هذا النوع من الأفلام، وحصارها في صورة الجسد المثير، وفي هذا الجزء تناولت المخرجة حالات مختلفة من الانتهاكات التي تعرضت لها جسديًا في مشاهد من أفلامها، كالتعذيب والاغتصاب، ومهدت ذاكرة المشاهد العنيفة إلى الكابوس الذي تعيشه في الجزء الثالث من الفيلم، والذي يركز على أفلام قدمتها بشكل أفضل فنيًا، وقدمت فيها حالات وشخصيات مختلفة ومعقدة، وهو جزء ذو طابع وجداني، يحفل بالقلق والتوتر في شخصية «سعاد» وتنتهي مشاهده بالموت، فيما حرصت المخرجة في خاتمة الفيلم على الاحتفاء باقتباسات من فيلم "خلي بالك من زوزو"، حيث نودعها حاملة دعوى المستقبل. يحمل هذا البناء طابع وملامح الذاكرة في استعادات متكررة لعدد من المشاهد، وإعادة قرأتها، والحيرة والقلق أمام غيرها، والذكريات التي شوهتها الخدوش، وهنا يتجلى إبداع المخرجة في اختيار مواد فيلمية من تقنية الفيديو، التي حققت التأثير المادي والوجداني للذاكرة على مستويين، فكأنها ذاكرة الممثلة الراحلة، وكذاكرة شعبية لجمهور عاش ومايزال مع أفلامها. اختيار شرائط الفيديو يأخذنا لمستوى آخر من الفيلم، في تحية عصر اندثر بتقنياته ومفرداته مع اندثار شرائط الفيديو، بما يجعله وثيقة لنوع مختلف من الصورة عما نعرفه اليوم، لذا حرصت المخرجة على الصورة التي تقدمها الشرائط حتي بعيوبها الفنية كوثيقة وتحية لهذه التقنية التي أتاحت إمكانية التوزيع الواسع للأفلام، حيث كانت الوسيلة الوحيدة لتداول الأفلام خارج صالات السينما قبل عصر الفضائيات. اختارت المخرجة التركيز على ما قدمته أفلام سعاد حسني، من توثيق للتغيرات في الواقع الاجتماعي المصري، ورغم أن الفيلم لم ينشغل بتوثيق التغيرات السياسية خلال 30 عامًا هي عمر سعاد حسني على الشاشة، حيث شهدت تغيرات مسيرة يوليو1952، من مرحلة الصعود القومي في الستينات إلي السبعينات وماتلاها من انقلاب على مشروع يوليو وتوجهه القومي التحرري، إلا أن الفيلم طمح لنوع آخر من التوثيق للتحولات الاجتماعية والثقافية في الشارع المصري، فيما قدم تحية للسينما المصرية ولعصر مضي فنيًا وثقافيًا، شهد ثراءً وانفتاحًا انعكس على شاشة السينما، ولنجمة جسدت أدوار المرأة العربية العصرية في تعدديتها وتناقضاتها على مدار ثلاثة عقود، واستعادة لأجيال من نجوم السينما المصرية، شاركت سعاد، مثل عبد الحليم حافظ، يحيي شاهين، عادل إمام، وأحمد زكي، قبل أن تنسحب من المشهد السينمائي في وقت شهد انحسار عام في الإنتاج المصري، وتدهور ثقافي وقيمي ثم ظهور الفضائيات وسطوة الدراما. عنوان الفيلم يداعب فكرة الإثارة، لكنه في المقابل يبدأ لعبة مراوغة مع جمهوره، تتواصل طوال الفيلم، حتى يمكن تفسير المقصود باختفاءات سعاد بأكثر من تأويل، من اختفاء للممثلة عن شاشة السينما في مرحلة طويلة تسبق رحيلها امتدت عشر سنوات منذ آخر أفلامها «الراعى والنساء» 1991، أو اختفاء الوسيلة الفنية التي اعتمد عليها الفيلم شرائط الفيديوكاسيت، والأهم اختفاء لنماذج شخصية الفتاة المنفتحة والمتحررة من سينمانا، وكذلك اختفاءها الأخير برحيلها الذي يصاحبه الغموض أيضًا، فيما يتجاهل الفيلم تمامًا كل الجدل الذي أثير حول وفاتها، والسجال حول جهات قتلتها وعلاقتها بالمخابرات وغيرها، ليعيد الاعتبار إلى إسهامها على الشاشة، وحضورها في وجدان أجيال عاصرتها أو لم تعاصرها. بدأت رحلة رانيا اسطفان مع السندريلا خلال دراستها للسينما وأطروحتها التي قدمتها عن صورة الممثلة في السينما العربية لجامعة «لاتروب» الأسترالية، حينها كانت صورة سعاد حسني هي التي اخذت بيدها ودفعتها للاهتمام بالسينما العربية، ولإعادة اكتشاف شغفها بالسينما المصرية، التي شكلت الوجدان العربي على مدار عقود، ووجدت في شخصية السندريلا المنفتحة ما شكل هوسًا استمر معها أكثر من 10سنوات، هي عمر إنجاز الفيلم، الذي بدأ التفكير فيه مع خبر وفاة ال«سندريلا» في لندن عام 2001، والجدل الذي صاحبه حول وفاتها انتحارًا أم قتلًا، حينها قررت المخرجة التي فقدت فرصتها في مقابلة السندريلا، أن تقدم فيلمًا لتكريمها، واختارت أن تعيد التعريف بها من خلال أفلامها، فكأنه لقاء معها من نوع مختلف، وعلى مدار ال10سنوات، جمعت شرائط فيديو ل72 فيلمًا من أفلام سعاد ال82، وواصلت العمل عليها بشكل بحثي، كأنها دراسة عملية تستكمل أطروحتها الأكاديمية، فقامت بتفريغ أفلامها كتابة وتحويلها إلي مادة ديجيتال في جهد بحثي غير مسبوق، ولأن فيلمًا من هذا النوع هو شخصي جدًا، عملت عليه على مدار 10 سنوات، تأليفًا وإخراجا وكذلك المونتاج والتمويل، حتى حصلت على دعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون "آفاق" في مراحله الأخيرة. وإكمالًا للمفارقات الغريبة في هذا الفيلم، انتهت المخرجة من المونتاج بالتزامن مع ذكرى عيد ميلاد السندريلا في 26 يناير عام 2011، ليتزامن أيضا مع انطلاق ثورة يناير، فيما كانت سعاد حاضرة فيها باقتباس من أحد مشاهدها وجملتها الشهيرة "أنا رايحة على الميدان". نال الفيلم جوائز من مهرجان الفيلم الوثائقي في مرسيليا، بينالي الفن الحديث في الشارقة، جائزة رينوفيكتور من المركز السينمائي الفرنسي التي تتيح عرضه في المكتبات السينمائية الفرنسية، كما حصلت مخرجته على جائزة أفضل مخرجة وثائقية في مهرجان الدوحة ترايبيكا 2011.