لا يقبل أي إنسان يبغي الراحة والاستقرار أن تبقى بعض النصوص الدينية – التي تؤرقه وتقلق مضجعه – على هذه الحالة من القداسة تجاه النفس وأمام الناس وهي التي تقف دوما حجر عثرة أمام شعور أي مسؤول بطمأنية نفسية وسلام داخلي.. فهل تتصور أن المرتشي وآكل أموال اليتامى والمختلس يذهب لأسرته بعدما يلبي لهم احتياجاتهم ليقول لهم: كلوا هذا الطعام الحرام بألف صحة! واستدفئوا من البرد بملابسكم ومعاطفكم تلك المغموسة بحطب جهنم، والتي حتما نحن لها واردون! على العكس تماما، فلو ظل مرتكب الحرام على هذه الحالة ربما قتلته نفسه اللوامة وعذَّبَه ضميره، ولن يغمض له جفن أو ينعم بأكلة ولا شربة أبدا. لذا فإن أمامه حلين لا ثالث لهما: إما أن يطوِّع نفسه ويتعامل مع هذه النصوص باعتبارها لا تخصه في شيء ليصبح تماهي الموظف مع الرشوة اليومية بكل أريحية؛ بعد أن أقنع نفسه أن هذا حقه الطبيعي الذي اغتصبه منه الفاسدون والمرتشون الكبار أولا، "وبعدين إحنا بناخد معلقة كشري بس مش الطبق كله يعني"! وسيرى آكل أموال اليتامى أنه سيأخذ أموال هؤلاء الضعفاء حتى لا يفسدون بها ويتيهون في هذه الغابة التي يأكل القوي فيها الضعيف، وكذا المختلس يرى أن هذا رزق ساقه الله إليه بعدما اجتهد في عمله، ولم يرَ من ذلك نصيبا إلا فتات الموائد، ومن ثم حان وقت المكافأة. فلا تتعجب عندما ترى هؤلاء هم أكثر من يعظون الناس ويحذروهم من مغبة المال الحرام، وتذكرهم بلعن الله للراشي والمرتشي، وسوء أخلاق الناس وغيرها من المواعظ الحكيمة والحكم البليغة التي تلوكها ألسنتهم باعتبارهم منها براء. أما الحل الثاني وحتى تطمئن قلوبهم وتستتب أمورهم هو حذف هذه النصوص المقدسة التي ربما تسبب بعض الأرق لا لأنهم ستتعذب أنفسهم كلما تذكروها، ولكن لكي لا تزعجهم بها ألسنة شعوبهم إذا عرفوها، وربما هذا ما حدث في بعض من الخلافات غير الراشدة والتي تأسست على القوة والغلبة والعصبية السلالية والملك العضود، وقدَّم من خلالها فقهاء تلك الأنظمة غطاء دينيا شرعيا للاستبداد بوضع الأحاديث التي توجب طاعة ولي الأمر الظالم, وضعفوا أحاديث الخروج عليه، وأفشوها في العامة قصدًا لتثبيت الأمر لهم ولأولياء عهدهم من بعدهم. لذا كان هول المفاجأة صادما ونحن نرى رئيس الجمهورية يدعو لثورة دينية! فهل هناك نصوصا أخرى يخاف منها السيسي فعلا على العالم باعتبارها نصوصا تعادي الدنيا كلها، فأي دنيا تلك التي يخاف عليها – إلا لو اعتبرنا أن مصر أصبحت قد الدنيا فعلا – لذا أراد من أجلها أن يقوم الأزهر الشريف بثورة دينية على تلك الأفكار.. يبدو الأمر بالنسبة لي ضبابيا عن مغزى ثورته؛ لذا تمنيت أن يتكلم السيسي في هذه النصوص صراحة خصوصا بعدما مرت بضعة أيام على كلمته المبهمة، وحتى لا يترك لأي من الخبثاء فرصة للقول بأن الرجل لا يرتاح مثلا لحديث "سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" أو لربما استغل أحد المحسوبين على الطابور الخامس هذه الخطبة ليزعم أن الرجل يريد أن يحذف حديث المصطفى "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم" أو تقوَّل عليه أحد الاشتراكيين زورًا بأن غضب الرئيس من التراث كان بسبب مقولة أبي ذر الغفاري "عجبت لمن لا يجد قوت يومه ولا يخرج للحاكم شاهرا سيفه". ولكن قبل أن نتوه في هذا التفاصيل أوليست الثورة الدينية هي فكر يسري في أرواح العلماء ونبض قلوبهم يضحون بأنفسهم من أجل أن ينتشر في ربوع الأرض؟ أما إن كانت الثورة تنتظر أمرا من حاكم لموظفين وعلماء لا يملكون حق الرفض والامتعاض فهذا أشبه بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلاد آل سعود.