بعد ثورتين شعبيتين يعود الفن الرابع لفكرة البطل الفرد المنقذ، رغم تجاوز مسرح القطاع الخاص منذ سنوات سذاجة هذه الفكرة، ألم يكن شعاره في موقف مشابه خلال عرض «الزعيم» لعادل إمام: الشعب اللي مصيره بإيده هو الحارس هو الفارس، الأحلام مش عايزة فوارس، الأحلام بالناس تتحقق؟! هل كان المخرج عاصم نجاتي يعتقد أن عرضه «تحيا مصر»، الذي افتتح الأسبوع الماضي على خشبة مسرح الهناجر، يجدد تفويض لا يحتاجه السيسي؟ محملًا دافعي الضرائب أكثر من 150 ألف جنيه على ميزانية عرض اختار له اسمًا يليق باحتفاليات "التأييد" العتيدة. «الهناجر» كان يستهدف عروض مغايرة، ففتح آفاق التجريب أمام الشباب واحتضن المستقلين، إلا أن وقوف عاصم نجاتي- مدير المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، على خشبة الهناجر مخرجًا وبطلًا، يأتي ضمن سياق مناقض لهدف تأسيس هذا المسرح. «نجاتي» تنازل عن أجره كمخرج وممثل في العرض، بعد انتدابه لرئاسة المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية؛ استشعارًا للحرج، كما انسحبت زوجته الدكتورة أماني يوسف، بطلة العرض، بعد توليها إدارة مركز الهناجر، الأمر الذي كان مدرجًا في خطة الإنتاج خلال فترة إدارة سلفها، المخرج هشام عطوة. يأتي العمل كثاني نص يقدمه «نجاتي» من أعمال شهيد محرقة مسرح بني سويف الدكتور محسن مصيلحي، بعد "نازلين المحطة الجاية"، الذي أخرجه لمسرح التليفزيون عام 2003، وهو مأخوذ عن نص "باب زويلة"، وسبق تقديمه عدة مرات في عروض الثقافة الجماهيرية، إحداها لنجاتي نفسه عام 2004، باسم "باب المدينة"، لفرقة السويس القومية، فلماذا تغير الاسم؟ ولماذا تجاهل توظيف خيال الظل الذي يفترض أن العرض يدور حول 3 شخصيات من فنانيه: "فاطمه البكري- رمز المقاومة، وزميلها توفيق، والعجمي الذي وظف فنه لخدمة السلطان والسلطة الفاسدة"؟ يقدمون نماذج مختلفة لعلاقة الفنان بالسلطة ودور الفن في التأثير في وعي الناس، وحتى في كتابة التاريخ اختار مصيلحي خيال الظل، أحد أوائل أشكال المسرح والفنون الأدائية العربية، ولعب دور الجريدة الشعبية، المعبرة عن لسان حال الناس، وليس فقط وسيلة ترفيه عنهم. وظف الكاتب فنانيه ليقدموا أمثلة للنماذج المختلفة للفنان والمثقف، وفقًا لموقعه بين السلطة والشعب، ويبدو غريبًا ألا يكون هناك اجتهاد في تقديم خيال الظل في العرض، رغم أنه يناقش دوره كأحد وسائل حفظ التاريخ الشفوي، ويعري إمكانية الاستخدام المزدوج للفن، أما في رفع وعي الناس وتبصيرهم، بما يجري حولهم من ألاعيب السياسة والحكام أو السيطرة على عقولهم وطمس وعيهم، لكن العرض يخلو من أي نماذج لخيال الظل، فيما توجد شاشة جاهزة للعمل خلفها، منسية لا تستخدم، تبدو كقطعة ديكور مهملة بلا دور. النص يحاكم دور الفنان، ويطالبه بتحديد موقعه مما يدور للوطن، وأن ينحاز لهموم الشعب وأحلامه، ويحاكم أيضًا من يتجاهل دور الفن، ويدعي حياده عما يدور حوله، ويحاكم تجار الدين، ممثلين في "الشيخ حلاوة" الذي يثبط همم الناس عن مقاومة ظلم المماليك، ثم عن مقاومة العثمانيين ويتلون مع اختلاف الحكام، كما يهجو كتابة التاريخ بلسان السلطة المنتصرة، مذكرًا بتشويه شخصية طومان باي، آخر سلاطين المماليك، الذي اختار الدفاع عن مصر فيما خذله باقي أمراء المماليك، بعدما نهبوا خيرات الشعب، وكان مصيره تمثيل الغزاة بجثمانه على باب زويله، فيما شوه سيرته الفنانون التابعون لها في بابات (أدوار أو فقرات) خيال الظل، لينهوا أسطورة من قاوم الغزو. في النص والعرض معًا، يرفض الفنانون الوطنيون، تمثلهم فاطمة، طمس التاريخ ويستخدمون الفن سلاحًا للمقاومة ولحفظ الذاكرة، لكن المسافة واسعة بين النص الذي نشر 1999، وبين العرض الذي قدم على خلفية تجدد الصراع السياسي مع تركيا، الساعية إلى استعادة نفوذ "الإمبراطورية العثمانية" في المنطقة، خاصةً مع صعود الإخوان لحكم بعض دولها ضمن تداعيات الربيع العربي. إذًا.. تجددت المبررات الدرامية لمناقشة هذا الصراع التاريخي، اختار المخرج صيغة فرقة مسرحية تشخص العرض، عبر تقنية المسرح داخل المسرح، لكنه انشغل باستغلال مساحة الارتجال المتاحة لإطلاق الإيفيهات على حساب تعميق أفكار الصراع، موسعًا مساحة دور مخرج العرض وبطله. «نجاتي» في دور عجمي.. نموذج الفنان الفاسد، معتمدًا على إيفيهات وجهها لزملاء العرض على الخشبة، فأفلتت منه حدود استخدامها وانضباطها، وتلبسته شخصيته في الواقع كأستاذ في معهد الفنون المسرحية يطلق توجيهاته وانتقاداته للطلبة فوق خشبة المسرح، بالتوازي مع سيطرة أداء خطابي أحادي على أجواء العرض. المخرج مهد لعمله بأنه «غنائي استعراضي ساخر»، لكنه قصر السخرية على نفسه تجاه باقي الممثلين، وألبس أبطاله أزياء لا علاقة لها بأي زمن، واختزل الاستعراضات في تحريك الأذرع على طريقة حفلات الحضانة، وهو ما ينطبق على الموسيقى أيضًا. هكذا ارتدت فاطمه البكري، رمز المقاومة والفنان الملتزم بقضايا وطنية، وخليفة والدها معلم خيال الظل حامي التراث الوطني المصري، ملابس تشبه أزياء غجر أوروبا، ويمكنك مد الحبل إلى تصفيفات الشعر والاكسسوارات، ويرتدي شريكها في المسيرة الفنية، توفيق، أزياء تذكرنا بفناني الملاهي العصرية، صديرية تبرق بفصوص الألماظ، بدا الديكور عشوائيًا كأنه ليس أكثر من قطع أخذت من المخازن، بلا هدف. «تحيا مصر»: بطولة "عاصم نجاتي، جيهان سلامة، محمد نشأت، أحمد ثابت، أحمد بسيم، محمد عبد الرشيد، أسامة عبد الله، أحمد ماجد، أحمد فايز، شيماء غالب، أحمد عزت، الحسين شيراز، محمد فرج، محمود جندي"، ديكور وأزياء الدكتور محمود سامي، أشعار الدكتور مصطفى سليم، موسيقى وألحان هشام طه، وتصميم استعراضات مايكل فايق.