جاءت استقالة وزير الدفاع الأميركي "تشاك هَيجَل" (68 عام) أول أمس كملمح أولي لما طرأ من تغير على سياسة إدارة الرئيس الأميركي "باراك أوباما" منذ أوائل العام الجاري وإعلانه عن استراتيجة إدارته لمواجهة مختلف التحديات الخارجية والمخاطر التي تواجهها المصالح الأميركية ، الذي أخرها وأخطرها تمدد وانفلات تنظيم "الدولة الإسلامية" المعروفة إعلامياً بتنظيم "داعش" في المنطقة. ف"هيجل" عند تعيينه في يناير من العام الماضي، كان دليل أن الإدارات الأميركية ستمضي قدماً في سياسة الاحتواء والانسحاب حتى نهاية الولاية الثانية والأخيرة للرئيس الأميركي، فالوزير الذي أجُبر على تقديم استقالته قبل يومين كان يشارك "أوباما" رؤيته في تجنب الحروب قدر المستطاع، منذ أن كانا زميلين في الكونجرس الأميركي، وعلى الرغم من كون "هيجل" ينتمي إلى الجمهوريين، إلا أنه كان دوماً ومنذ عمله كسيناتور عن ولاية "نبراسكا" يعلن عن معارضته دوماً لسياسة الرئيس الأميركي السابق جورج.دبليو.بوش، خاصة فيما يتعلق بحرب العراق، وبعد أن تولى رئاسة "البنتاجون" في فترة أتسمت بالتغيرات العاصفة على امتداد خارطة السياسة العالمية، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، أشيع عن خلافات بينه وبين الرئيس الأميركي، خاصة فيما يتعلق بسيناريوهات التعاطي مع الأزمة السورية والملف النووي الإيراني، وعودة حركة طالبان بقوة على الساحة الأفغانية، وتمدد التنظيمات المتطرفة في وسط آسيا بشكل عام، وأيضاً فيما يخص تبدل المواقف بين الولاياتالمتحدة ودول المنطقة في أعقاب الإطاحة بجماعة بالإخوان المسلمين في مصر، وإدارة الحرب الأميركية الجديدة في المنطقة. بداية يجب الإشارة إلى أن وزراء دفاع الولاياتالمتحدة في عهد "أوباما" تميزوا بكونهم وزراء تهدئة لا تصعيد، اتساقاً مع توجه "أوباما" منذ دخوله البيت الأبيض، الرامي إلى لملمة فوضى الحروب الذي بدأها سلفه "جورج بوش" الإبن منذ عام 2001 في افغانستانوالعراق، حيث سلكت واشنطن حينها مندفعة بصعود اليمين المحافظ متمثلاً في صقور الجمهوريين إلى ترسيخ هيمنتها العسكرية في أماكن تمركز مصالحها حول العالم، متخذة من الحرب على الإرهاب ذريعة لتثبيت معادلة لخصها "بوش" بشعاره الأشهر: "من ليس معنا فهو ضدنا"، لذلك كان القادة العسكريين الأمريكيين ومن ضمنهم وزير الدفاع، وكذلك القادة السياسيين، قادة "حرب"، وهو ما كان عكسه "أوباما" في اختياره لمسئولي إدارته حتى الفترة الحالية، فباستثناء "روبرت جيتس"، الذي أبقاه الديمقراطيين عقب فوزهم بانتخابات مجلس الشيوخ في 2006 وكذلك فعل "أوباما" حتى عام 2011، جاء "ليون بانيتا"، الذي وُصف برجل الإنجاز الوحيد، حيث تم في عهده بل أشرف بنفسه على عملية قتل زعيم القاعدة السابق، "أسامة بن لادن"، ليشرف على تقليص التواجد العسكري الأميركي في العراقوافغانستان، ليخلفه بعدها "هيجل"، الذي يصف نفسه ب"رجل لا يرى في الحروب أي مجد بل معاناة للجميع"، ويتسق ما يعلنه هيجل عن نفسه في نشاطاته الأخيرة في البنتاجون، التي رمت إلى استغلال امكانيات الجيش الأميركي في محاصرة وباء "إيبولا". وعلى الرغم من انتماء "هيجل" للجمهوريين، إلا أنه دوماً ما أعلن عن معارضته لشن أي حروب ليست ذات ضرورة قصوى، والذي وصف غزو العراق، "بالخيبة الأميركية الأكبر منذ حرب فيتنام" فأتت استقالته أو إجباره على الاستقالة منذ يومين لتطرح أسئلة حول طبيعة المرحلة القادمة لسياسة واشنطن الخارجية. وتأتي هذه الخطوة في الشهور الأخيرة المتبقية من حكم "أوباما"، ومع تقدم الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي التشريعية قبل أسابيع، وقبل أن يدخل "أوباما" المرحلة التي يطلق عليها الأميركيون، "البطة العرجاء" اختصاراً لحالة مقدرة ساكن البيت الأبيض على اتخاذ قرارات حاسمة في الداخل أو الخارج في شهوره الأخيرة، وذلك بموازاة تحديات صعبة تواجهها السياسة الأميركية، يستدعي بعضها حل عسكري من وجهة نظر معظم الأميركيين، كحرب واشنطن الأخيرة ضد تنظيم "داعش"، بالإضافة لتأزم الموقف مع روسيا على خلفية الأحداث في أوكرانيا وانضمام شبه جزيرة القرم إلى الأولى، وأيضاً الأزمة السورية التي تدخل عامها الرابع دون حسم يرضي الساسة الأميركيين وحلفاءهم، ناهيك عن الملف النووي الإيراني والذي لم يُحسم حتى اللحظة حسب مصلحة واشنطن، بل قطعت فيه طهران شوطاً كبيراً ولم تفضي العقوبات الاقتصادية المتعاقبة عن تراجع الأخيرة عن إرادتها. بالإضافة إلى كيفية عودة الهيمنة العسكرية للخليج العربي والمنطقة بشكل عام، بشروط وتوافق مع حلفاء الولاياتالمتحدة في المنطقة تجاه تحديات مشتركة، بندية أتت بعد إخفاق واشنطن في إقرار حلفاء جدد لمرحلة "الربيع العربي" والإطاحة بحركة الإخوان المسلمون في مصر وتراجع نفوذها في المنطقة. وفي هذا السياق، ترى صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أن "إقالة هيجل جاءت بسبب انعدام الثقة في قدرته بالتصدي بفاعلية للتهديدات التي تواجهها المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، والتي تضاعفت بسبب الانفلات الأمني وانهيار منظومات الدول في عدد من بلدانه، ف"هيجل" ظهر وكأنه غير مستعد بشكل مناسب لمواجهة "داعش" في العراق، وأيضاً فيما يخص بقاء الرئيس السوري، وصحوة حركة طالبان مرة أخرى في افغانستان، وأفعال الرئيس الروسي الاستفزازية في أوكرانيا، وأخيراً فشله في إفهام إيران أن الخيار العسكري مطروح فيما يتعلق ببرنامجها النووي، حيث اقتنعت الأخيرة أن الخيار العسكري ليس له معنى". وأضافت الصحيفة الإسرائيلية أن بخلاف السابق، فإن هيجل"فشل في الإعلان عن نفسه وتسويق سياسته، ليس فقط على مستوى البيت الأبيض، ولكن أيضاً داخل المؤسسة التي يترأسها، وفي هيئة الأركان المشتركة، وأيضاً أمام الرأي العام الأميركي، والذي أثيرت مخاوفه بعد المخاطر المتلاحقة للمصالح الأميركية على مستوى العالم، وكذلك فشله في إقناع الناخبين في انتخابات الكونجرس الأخيرة بمنهجه ورؤيته، وهو ما ساعد على هزيمة الحزب الديمقراطي، ولذا من الطبيعي بعد كل هذه الأسباب أن تتم اقالته". ويتوافق ذلك مع ما نشرته وكالة "اسوشيتدبرس" عن مسئول في البنتاجون وصفته برفيع المستوى أن "هيجل جاء في فترة انتقالية يمر بها البنتاجون، سواء مسألة تقليص الميزانية، أو الانسحاب من العراق وأفغانستان، وهذا يعني الأن أن دوره الذي أداه بشكل جيد قد أنتهى". وتؤكد صحيفة "نيويورك تايمز" الفقر السابقة، حيث ذكرت بحسب مسئول في البيت الأبيض، أن "أوباما أتخذ قراره بإقالة هيجل الأسبوع الماضي، بعد اجتماعات استمرت على مدى أسبوعين. والقرار نفسه برهان أن الخطر الذي تمثله داعش يتطلب مهارات لاتتناسب مع التي يقدمها هيجل(..) الرجل أستدعى إلى المنصب لتأمين انسحاب الجيش الأميركي من افغانستان، والعناية بمسألة تخفيض ميزانية الدفاع، لكن هناك أهداف مختلفة في خلال العاميين القادميين". وتتابع "نيويورك تايمز" بالقول أن"هيجل واجه صعوبة في أن يندمج بالفريق المقرب للرئيس أوباما، التي تتكون من مساعديه السابقين ومستشاري حملاته الانتخابية، فلم يستطع الحصول على ثقة مماثلة كالتي حظى بها مارتن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، عقب اقتراحه بالقيام بفعل عسكري ضد تنظيم الدولة الإسلامية. لقد وصل الأمر حسب بعض المسئولين في الإدارة الرئاسية أن هيجل كان يجلس صامتاً في الاجتماعات الوزارية، وأنه كان ينتظر أن يجتمع وحده بأوباما ليشاركه وجهة نظره التي كان يخشى أن تتسرب". وفي سياق متصل، ذكرت صحيفة "ذا جارديان" البريطانية بحسب مصدر بالبيت الأبيض، أن "أسباب استقالة هيجل الأساسية تتعلق بفشله في وقف تقدم داعش، مما يُعدّ فشل الولاياتالمتحدة في مواجهة تنظيم إرهابي، وهو مالم يقبله الرئيس الأمريكي، الذي أتفق مع هيجل بشكل إجباري على تقديم استقالته". ردود الأفعال على استقالة "هيجل" ربما تكون الأولى من نوعها في تاريخ تغيرات منصب وزير الدفاع الأميركي، وتوضح أن كافة الأطراف المعنية بصراعات الولاياتالمتحدة حول العالم متحفزة لأي مؤشر قد يستنتج منه مدى نجاح أو فشل استراتيجية أوباما الجديد، فعلى سبيل المثال لا الحصر، أعتبر مؤيدي تنظيم "داعش" أن هذه الاستقالة تبرهن على إخفاق الولاياتالمتحدة في حربها ضد التنظيم. وقد يكون هذا الاحتفاء المبكر بحد ذاته دليل على حساسية الفترة التي تمر بها الساحة الدولية، وبشكل أدق إن سلمنا بالرواية شبه الرسمية الأميركية المتداولة على لسان مسئولين البيت الأبيض و"البنتاجون"، أن الفترة التي تولى فيها "هيجل" هي فترة انتقالية انتهت باستقالته، فذلك يعني أن سياسة الاحتواء والتهدئة التي انتهجها أوباما في بداية عهده انتهت بشكل رسمي. وتطرح الاستقالة أيضاً أسئلة حول ملامح الفترة القادمة للسياسة الأميركية الخارجية، وخاصة أن أوباما على في الرُبع الأخير من سنوات حكمه، مما يعني أن العاميين المتبقيين له تمهد لتغير ليس بالقليل في السياسات الأميركية، ستعتمد فيه واشنطن على قوتها العسكرية، أو بالحد الأدنى التلويح بها بجدية، كما كان الوضع قبل 2001، وستكون اليد العليا في هذا التغيير للجمهوريين، الذين بدءوا في استعادة نفوذهم في الكونجرس خلال الانتخابات الأخيرة وللمرة الأولى منذ 2006. بمقولة أخرى قد تكون السنوات الست الماضية فترة التقاط أنفاس وإعادة ترتيب وتقييم ومراجعة بعد سنوات من فشل عسكري في العراق وأفغانستان، قد يتكرر مرة أخرى، إذا ثبت خطأ ما أعلنه المتحدث بأسم "البنتاجون" أمس في مداخله له على قناة سي إن إن، حيث قال"أن استقالة هيجل لا تعني تغير جذري في استراتيجية محاربة داعش، أو إرسال جنود أمريكيين للحرب على الأرض في مناطق القتال".