صوت يقف فريدًا غريبًا باهرًا، وسر غرابته أنه استمد طبيعته من جذور الأرض، فينتقل بسامعيه من عالم الدنيا إلى عالم تسوده الروحانيات، تستشعر وأنت تستمع إلى صوته بأن الرجل لا يقرأ الآيات بل «يمضغ» الكلمات و«يفسر» المعاني و«يتدبر» دلالاتها الشرعية والإيمانية.. يتسع صوته لقدر واسع من الجمال، ويتمتع بحسن الوقف وروعة الأداء وجودة مخارج الحروف.. هو الشيخ الجليل عبد الفتاح الشعشاعي. ولد الشيخ عبد الفتاح محمود الشعشاعي في قرية شعشاع بالمنوفية من عام 1890 ووالده الشيخ محمود إبراهيم الشعشاعي من محفظي القرآن الكريم وسميت القرية باسم جده شعشاع، وحفظ الشيخ عبد الفتاح القرآن على يد والده في عشر سنوات وأتم حفظه في العاشرة من عمره. سافر الشعشاعي إلى طنطا لطلب العلم من المسجد الأحمدي وتعلم التجويد وأصول المد بالطريقة العادية، وذاعت شهرته وهو في الثانية عشرة من عمره، ولتفوق الشيخ وتميزه بصوت عذب؛ فقد نصحه المشايخ بالسفر إلى القاهرة والالتحاق بالأزهر الشريف ودرس القراءات على يد الشيخ بيومي والشيخ علي سبيع، وبالفعل سافر إلى القاهرة واستقر بالدرب الأحمر عام 1914 ثم عاد إلى قريته شعشاع. لكنه عاد إلى القرية وبين جوانحه إصرار عنيد على العودة إلى القاهرة مرة أخرى ليشق طريقه في زحام العباقرة نحو القمة وكان في القاهرة حشد هائل من عباقرة التلاوة وعندما بدأ الشيخ رحلته إلى القاهرة كان أكثر المتفائلين بأن الشيخ الشاب سينجح حتى في كسب عيشه. وكون الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي فرقة للتواشيح الدينية وكان في بطانته الشيخ زكريا أحمد الملحن الشهير الذي ذاع صيته فيما بعد وسرعان ما بدأ الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي يتألق ويلمع وأصبح له عشاق بالآلاف، ومنذ سنة 1930 تفرغ الشيخ لتلاوة القرآن الكريم وترك التواشيح إلى غير رجعة ومع ذلك لم ينس رفاقه في الدرب، فقرر تخصيص رواتب شهرية لهم حتى وفاتهم، وبعد افتتاح الإذاعة عام 1936 بدأ نجم الشيخ يتلألأ، وتم اعتماده بالإذاعة وسجل إليها مجموعة من الأشرطة وصلت إلى أربعمائة. تم تعيين الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي قارئا للقرآن الكريم بمسجد السيدة نفيسة، ثم انتقل إلى مسجد السيدة زينب بعد وفاة الشيخ أحمد ندا واستمر بهذا المسجد لمدة 22 سنة. كان الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي يتمنى القراءة في الحرمين الشريفين بالمملكة العربية السعودية، وبالفعل تحققت أمنيته ففي عام 1948 ذهب إلى المملكة العربية السعودية لأداء مناسك الحج، وفي هذا العام أدخلت المملكة الميكرفونات في الحرمين المكي والمدني وقرأ الشيخ الجليل يوم الجمعة في الحرمين بحضور جلالة الملك عبد العزيز بن سعود خادم الحرمين، وبذلك يكون الشيخ أول من قرأ القرآن الكريم بمكبرات الصوت في مكة والمسجد النبوي. وتوفي الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي في عام 1962 عن عمر يناهز الثانية والسبعين عاما قضاها في خدمة القرآن الكريم، وكانت حياته حافلة بالعطاء وخلف وراءه تراثا قيما سيظل خالدا خلود القرآن.