على لافتة ضخمة تحلق فوق محور 26 يوليو قرر أحدهم أن يبعث لنا رسالة مطمئنة تقول "إتقل يا شعب، الكبير جاي"! تحت اللافتة كانت طوابير من السيارات لا يدرك البصر نهايتها إلى الأمام والخلف تتحرك ببطء شديد. بعد أكثر من ساعة وصلت السيارة إلى حيث يكمن سبب الازدحام الشديد. أسفل الدائري كانت بركة مياه تخلفت عن أمطار الليلة السابقة. في وسط المياه كانت تقف عربة نزح صغيرة إلى حد أنها بدت غارقة في البركة التي لا يتجاوز منسوب المياه فيها شبرًا واحدًا! وبينما كان العامل المسؤول عن العربة يتبادل السباب مع سائقي السيارات المارة بسرعة متسببة في موجات متتالية من المياه القذرة تعلو لتغرقه هو وعربته، كانت عملية النزح تتم ببطء لأن معظم ما كانت تنزحه العربة كان يتسرب عبر ثقوب متعددة في خزانها! لا يمكنك إلا أن تشعر بالإشفاق على ذلك "الكبير" القادم، بينما يواجه السؤال الأصعب: كيف تتجنب انفجار قنبلة الشحن الاقتصادي والاجتماعي المتصاعد والضاغط بشدة على أعصاب الملايين من فقراء المصريين والمستورين منهم (مؤقتا)؟ ذلك في الوقت الذي سيكون على هذا الكبير أن يستخدم جهازا بيروقراطيا مترهلا إلى حد العجز في مواجهة شبر من المياه يعيق حركة المرور على واحد من أهم شرايين القاهرة الكبرى الرئيسية. عجز الجهاز الإداري للدولة هو فقط أحد أوجه المشكلة الأكثر تعقيدا والأكثر خطورة، كونها في القلب مما شهدته مصر من صراعات طيلة الأعوام الثلاثة الماضية. وبينما يبدو أن تضخم الجهاز الإداري وترهله هو السبب الرئيسي لعجزه وعدم إمكانية إصلاحه فالحقيقة أن فقر هذا الجهاز هو السبب الحقيقي. ويعود فقر الجهاز الإداري للدولة في مصر إلى الخلل العام في الموازنة العامة الذي قلص موارد الدولة من خلال مجموعة من السياسات تم تمريرها تحت شعار "تشجيع الاستثمار" المقدس. فتحت هذا الشعار تمت خصخصة الجانب الأكبر من القطاع العام الذي كان أحد أهم مصادر الموارد المالية للدولة، وتم خفض الضرائب بإلغاء شرائحها العليا ومن ثم يأتي أغلب ما يتم تحصيلها منها من رواتب الموظفين في مقابل نسبة محدودة جدا من أرباح الشركات والمستثمرين. هذا إلى جانب الدعم الذي تستهلك ثلثيه الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة وأهمها صناعات الأسمنت والحديد والصلب والأسمدة، والإعفاءات الجمركية على السلع الوسيطة والمواد الخام التي أدت بشكل جانبي إلى تدمير زراعة القطن في مصر نتيجة انخفاض سعر الغزول المستوردة، إضافة إلى دعم الصادرات وغير ذلك من سبل تحويل أموال الدولة إلى جيوب المستثمرين. وبينما يعاني الجهاز الإداري والخدمي من هزال موارده فإن السياسات الاقتصادية المستمرة حتى اليوم تعمل على تعظيم نصيب أصحاب الأعمال من عائدات الإنتاج وتحافظ على معدل أجور شديد التدني. وبصفة عامة تحيل هذه السياسات مصر إلى مزرعة يتم فيها حلب المواطن المصري وموارد دولته واقتصاده لصالح جماعة رجال الأعمال المحليين والمستثمرين الأجانب. ويلخص هذا الوضع طبيعة المشكلة الاقتصادية الحقيقية التي يفترض بالرئيس القادم مواجهتها. فعليه إرضاء ملايين الفقراء الذين فاض بهم، بتحسين مستوى معيشتهم ولا سبيل إلى ذلك إلا برفع دخولهم وإنفاق المزيد على الخدمات المقدمة لهم. ولكن لأنه يحتاج أيضا وربما أولا إلى إرضاء أصحاب البزنس في مصر وهم الحليف الأهم للنظام فعليه أن يحافظ على مصالحهم المتمثلة في إبقاء الأجور متدنية وعدم رفع الضرائب أو التخلي عن حزم الإعفاءات والدعم التي يحصلون عليها. وفي ظل إصرار من يسمون بخبراء الاقتصاد في مصر على تصوير المشكلة الاقتصادية على هيئة معدلات قياسية لمتوسط دخل الفرد والنمو والاستثمار، فإن الرئيس القادم سيظل محاصرا في محاولات تحسين أحوال المستثمرين بدلا من تحسين أحوال الشعب. وهي الوصفة الكارثية التي تقود مصر إلى انفجار جديد للغضب الشعبي يستحيل هذه المرة التنبؤ بنتائجه.