على طرق القاهرة الكبرى الرئيسية يطالعك أينما ذهبت لوحات إعلانية بأحجام مختلفة يدعوك صاحبها المجهول إلى المشاركة في الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد (للدقة هو مشروع تعديل دستور الإخوان الذي تم تمريره في مثل هذا الوقت من العام الماضي). صاحب الحملة الإعلانية التي لا شك قد كلفته ملايين الجنيهات، يؤكد من خلال لوحاته الإعلانية أن المشاركة في الاستفتاء تعني "نعم" (التي تم إبرازها في مستطيل باللون الأخضر) لثورة 25 يناير و30 يونيو! دعنا نتجاهل حقيقة أن هذه اللوحات الإعلانية قد تم نشرها في الشوارع قبل تحديد موعد الاستفتاء على الدستور. بل حتى قبل انتهاء لجنة الخمسين من إعداد الدستور بأسابيع. فصاحب الحملة الإعلانية المجهول لم يطالبك بالتصويت بنعم أو بلا. بغض النظر عن المستطيل الأخضر الذي تظهر كلمة نعم فيه، وبغض النظر عن أن العبارة في مجملها من الواضح أنها اختيرت خصيصا بحيث يمكن إقحام كلمة نعم فيها. دعنا نكون حسني الظن والنية كما هي طبيعة شعبنا الطيب. دعنا أيضا وفق ما تمليه تقاليد هذا الشعب العظيم، لا نتساءل عمن يكون الوطني الغيور الذي ضحى بهذه الملايين في سبيل مهمة وطنية جليلة وهي دعوة إخوته المواطنين إلى المشاركة في الاستفتاء على الدستور الذي هو ليس جديدا تماما. وحاشانا أن نشكك في أن يكون دافع صاحب الحملة الإعلانية هو أي شيء آخر سوى الغيرة الوطنية. أعني أي مصلحة قد تكون له غير الصالح العام للوطن؟ فمصر لا تفتقد إلى أصحاب المليارات المشغولين بالصالح العام، أعني عندما لا يكونون مشغولين بالتهرب من أداء ما عليهم من ضرائب. فلنترك هذه التساؤلات العقيمة جانبا إذن ونهتم بجوهر الرسالة التي تحملها الحملة الإعلانية ذات الحس الوطني الواضح. فعلى الرغم من افتراضنا حسن نوايا المواطن الغيور صاحب الحملة الإعلانية لا يبدو أنه يبادل جمهوره الافتراض نفسه. أو بمعني أوضح هو لا يرى أن جمهوره كله حسن النية سواء اختار الاستجابة لرسالته الإعلانية أم لا. فهو يؤكد أنك إن لم تشارك في الاستفتاء على الدستور فإن هذا يعني أنك تقول "لا" لثورة 25 يناير و30 يونيو. وإذا وضعنا ثورة 25 يناير جانبا، حيث لا يبدو أن قول "لا" لها يمثل مشكلة كبيرة هذه الأيام، فإن قول "لا" لثورة 30 يونيو تحديدا يعد محفوفا بالمخاطر. فقد يعني أنك متعاطف مع الإخوان المسلمين، أو أنك من خلاياهم النائمة أو لا سمح الله أنك أحدهم، وفي كل هذه الحالات هو يعني أنك تعتبر 30 يونيو انقلابا على الشرعية، وكما هو معروف فإن ذلك مما يخرج المرء من ملة الوطنية ويصمه بالعمالة. هذه الحملة الإعلانية هي في الواقع امتداد للواقع العبثي الذي نعيشه والذي تتم ترجمة أي فعل لك فيه على أنه انحياز مع أو ضد 30 يونيو و3 يوليو وكل ما تمخض عنهما من ترتيبات سياسية. ولا يتوقف الأمر عند تحميل فعلك بهذه الهوية السياسية الجديدة وإنما يتخطاه إلى اعتبارها شكلا من أشكال الخيانة العظمى. لا يكتفي واقعنا العبثي بملاحقة كل من يعلن صراحة عن تضامنه مع الإخوان أو مع قتلاهم في رابعة ولو كان ذلك من خلال أكثر الصور رمزية، كأن يحمل بالونا عليه شعار الأصابع الأربعة أو أن يذهب إلى مدرسته وبين أدواته مسطرة عليها الشعار نفسه، ولكنه يعمد إلى البحث في ضمير كل منا مترقبا ما قد تنبئ عنه أفعالنا مما هو مخفي فيه. فإذا لم تكن متضامنا مع الإخوان وحتى إن كنت ممن ناصبوهم العداء قبل وبعد 30 يونيو فإن مجرد رفضك لقتل معتصميهم في رابعة والنهضة بعشوائية متعمدة يجعل منك أحد خلاياهم النائمة. ربما يمكنك التماس منطق ما في ترجمة أي فعل أو رأي إلى انحياز مع أو ضد 30 يونيو عندما يتصل الأمر بالإخوان. سيظل هذا المنطق خاطئا بالتأكيد طالما أن فعلك أو رأيك قد اعتمدا على مبررات منطقية ومبادئ عامة لا علاقة لها بالإخوان أو غيرهم، ولكنك على الأقل يمكنك أن تفسره بحالة الإخوانوفوبيا السائدة. ما لا يمكن تفهمه أو التماس أي منطق وإن كان خاطئا فيه هو الربط المتعسف بين مواقف سياسية أو إنسانية لا علاقة لها بالإخوان وبين الانحياز إلى أو ضد 30 يونيو. فموقف أحدنا من قانون التظاهر أو موقفه من المحاكمات العسكرية للمدنيين، وموقفه من تحصين منصب وزير الدفاع أو موقفه من صلاحيات رئيس الجمهورية في الدستور إلخ، كل هذه أمور لا علاقة مباشرة لها بحالة الاصطفاف القسري التي يحاول البعض ابتزازنا جميعا للالتزام بها مستخدمين فزاعة الإخوان. إلا إذا لم تكن الفزاعة أكثر من ذريعة وستار لشيء آخر. ثمة خيط واحد يمكن أن يربط تلك الأمور التي تستخدم فزاعة الإخوان لتمريرها، ويمكن التقاط طرف هذا الخيط عندما نحاول تفسير هذه الأهمية الكبرى للمشاركة في الاستفتاء على دستور ليس فيه عمليا شيء جديد ذو قيمة. فهذا الاستفتاء هو أول اختبار عملي للشرعية الشعبية للسلطة الانتقالية القائمة يعتمد على أرقام واضحة ومؤكدة بخلاف إحصاء الجماهير المحتشدة في الميادين والشوارع منذ شهور. وقد يبدو غريبا أن تحتاج سلطة انتقالية مؤقتة إلى دلائل على شرعيتها في الوقت الذي يفترض بها أن تكون في سبيلها إلى ترك مكانها لسلطة جديدة منتخبة وفق الدستور الجديد نفسه. إلا إذا كانت الترتيبات التي تشكل هذه السلطة لا يراد لها أن تكون مؤقتة. هذه الترتيبات هي ملامح نظام لا يختلف في شيء تقريبا عن ذلك الذي أطيح برأسه في ثورة 25 يناير، والذي حاول جسده أن يتوافق مع رأس إخواني طيلة عام قبل أن يثبت فشل هذه المحاولة، والآن يحاول الجسد معتمدا على شرعية الإطاحة بالإخوان أن يرسخ عوامل استمراريته دون الاعتماد على رأس بعينه، وذلك بنقل الثقل الرئيسي للنظام بشكل كامل إلى مؤسسات الدولة الأمنية في الأساس مع دور تابع لمؤسساتها المدنية البيروقراطية، في الوقت الذي تم فيه تفريغ الساحة السياسية من أي لاعب ذو وزن، مع تهافت الأحزاب الورقية القائمة ومع القمع المنهجي لفرص تحول الحركات الثورية الشابة إلى قوى سياسية ذات تأثير جماهيري. هناك في الواقع إذن منطق حقيقي يدعم خيار مقاطعة الاستفتاء على الدستور لا علاقة له بموقف الإخوان أو غيرهم منه، ذلك هو منطق رفض منح الشرعية لترتيبات بناء دولة بوليسية تحكمها المؤسسات الأمنية من وراء ستار سياسي هزيل. وفي حين توجد أسباب منطقية كثيرة تبرر رفض مشروع الدستور الجديد بخلاف الواضح منها مثل تكريسه للمحاكمات العسكرية للمدنيين، وما يغيب عن أذهان الكثيرين مثل تكريسه لتهرب الدولة من أي التزام حقيقي تجاه حقوق مواطنيها وخاصة الأكثر فقرا بينهم، فإن عملية كتابة هذا الدستور التي تمت في غرف مغلقة لا علم لأحد بما دار فيها، وحقيقة أنه لا توجد أي ملامح معروفة للمسار الذي سيتم إتباعه في حال كانت نتيجة الاستفتاء هي رفض المشروع، وكأنما قبوله تحصيل حاصل، تماما كما كانت أي مشاركة شعبية في اختيار من يكتبونه أو في توجيه مسار عملهم هي تحصيل حاصل أيضا، كل ذلك يجعل من المنطقي رفض العملية برمتها وليس فقط ما أنتجته. قد لا يكون للشخص أو الأشخاص أو الجهة أو الجهات التي تقف وراء الحملة الإعلانية في شوارع القاهرة علاقة مباشرة بأي من المحاذير التي تحيط بقبول المشاركة في الاستفتاء على الدستور، ولكن حسن النوايا المفترض وراء هذه الحملة وغيرها لا يعني أن ما تحاول تسويقه صحيح بأي قدر. فالقبول بإعادة تأهيل نظام مبارك للحكم سنوات أخرى هو بالتأكيد لا يعني "نعم" لثورة 25 يناير، ولا هو يعني "نعم" لمن خرجوا في 30 يونيو رافضين أن يتخذ هذا النظام رأسا إخوانيًا وعباءة دينية. قد يظن كثيرون أن 30 يونيو كانت قوسا ينهي ما افتتحته 25 يناير، ولكن أمنيات هؤلاء المبنية على رفضهم فهم الواقع هي كغيرها من الأمنيات العبثية لا يمكنها تغيير الحقائق على الأرض، فإعادة عقارب الساعة إلى 24 يناير 2011 لن يعني إسقاط ثلاثة أعوام من تاريخ مصر وإنما سيعني فقط إعادة صنع 25 يناير جديدة.