لم تكن الثورات العربية المتلاحقة كاشفة فقط لبحيرات الفساد الآسنة التي تسبح فوقها معظم الأوطان العربية، إذا أنها أنقذت هذه الأوطان من مستقبل تثبت الوقائع واحدة تلو الأخرى أن نوايا شديدة الحلكة كانت ترسمه لتأخذ الأرض والناس إلى مصير لا يعلمه إلا الله. هذه النوايا كانت محاطة بأوهام كبرى تطلق بانتظام كدخان البخور في غرفة دجال لتعمي الأبصار والعقول وتريح النفوس الجاهلة. وأهم هذه الأوهام ذلك التبشير اللحوح بجيل جديد من الحكام العرب في الدول المفترض أنها جمهورية، وهو تبشير بدأ ب بشار الأسد في سوريا، وكان يمكن أن يكتمل بجمال مبارك في مصر وسيف الإسلام القذافي في ليبيا وأحد نجلي صدام حسين في العراق وسعيد شقيق الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الجزائر وأحد أقارب ليلى الطرابلسي زوجة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي في تونس. كان مؤامرات إعداد الورثة قبل إحباطها تجري على قدم وساق في كواليس هذه الأنظمة بمباركة قادتها، أو زوجاتهم، حتى أعدم منهم من أعدم، وخلع من خلع، وتراجع من تراجع أمام هبات الشعوب. حتى الدول التي تمتد إليها رياح الثورة بعد طوت ملفات التوريث وآمنت بأنه أصبح الكلمة الملعونة التي تشعل الشرارة الأولى في نار الغضب الحارق لأي نظام. هذا الجيل الجديد الذي جندت للتبشير به عقول وأموال كان يرفع راية الإصلاح، وهي الكذبة الكبرى التي صدرها جمال مبارك وشياطين الحزب الوطني في السنوات العشر الأخيرة وأغرقونا في معركة مفتعلة بين ما أسموه الحرسين القديم والجديد حتى ثبت أن كلا منهم كان حارسا فقط على خزائن فساده ولا ولاء عنده إلا لها. ولم يكن الفارق الزمني طويلا بين انكشاف كذبة جمال مبارك وجمعية المستقبل الأسود وسقوط وهم “الإصلاحي” السفاح سيف الإسلام القذافي الذي خرج إلى شعبه في بداية الثورة طالبا منه الاستمرار في الركوع لأبيه المجنون أو الاستسلام لحرب الإبادة. الصدمة الكبرى كانت في بشار الأسد عميد الورثة السابقين والوحيد الذي نجح مخطط فرضه على شعبه، وإن كنت لا أرى مبررا للصدمة، فطبيب العيون السابق فقأ قبل سنوات ناظري الشرعية في لحظة وكسر عنق الدستور بليل حتى يستطيع أن يطاول الكرسي الموروث. هذه الجريمة الكبرى ضاعت معالمها مع الوقت بين دخان الدجل التي جعلت سوريا بشار الثغر الأخير للعروبة، ولا أجرؤ على الشك في عروبة أهلها، والحارس الأمين على القومية، والمقاوم الأول لعدو الأمة الذي تنزه طيرانه فوق قصره مرارا، والحاضن المؤتمن على رموز النضال، رغم أن الحمائم باضت من زمن على مدافع الجولان الصدئة. وكان كل من يحاول إزالة غيوم الدخان هذه يطعن في عروبته ويحاكم على مشانق حنجورية في إعلام أغوات بشار الذي أخرج زملاءه الحكام ذات مرة من زمرة الرجال وجعل بعضهم أنصاف رجال وغيَر جنس البعض الآخر، وكانت وقتها أزمة بعد أن تحسس بعضهم مواطن رجولته وثار من أجلها. ما رأي هؤلاء الحنجورية اليوم وطبيب العيون الأعمى يجرب رجولته على أطفال شعبه بادئا بالأطفال لعله يثبت بأثر رجعي أن “الصبي” الذي رقعوا له ثوب الرئاسة ” صار رجَال” يناصره” شبيحة” و قبضايات” يطاردون “الزعران” أعداء حامي العروبة؟. والغريب أن أصدقاءنا السوريين كانوا في بداية الثورة يتوهمون أن ما يجري في سوريا مؤامرة عليها وعلى تيار المقاومة ويقولون إن أمرهم مختلف عما كان في مصر وتونس والكائن في ليبيا حتى تكشفت لهم الحقيقة المرة. وبعدها أدركوا أن بشار يقاوم إرادة شعب خرج، مخالفا لكل التوقعات، طالبا حريته، وأن أجساد السوريين هي ميدان معركته لاستعادة الأرض وطردهم إلى الدول المجاورة حتى يطيب له ولزبانيته المقام ويتفرغ لمحاربة “إسرائيل”. وليد عثمان