تحدث التاريخ عن العديد من الأنبياء والرسل والعظماء الذين حملوا رسالات السلام لشعوبهم، و رفعوا رايات العدالة خفاقة في زمن كثر فيه الظلم والاستعباد، فخاضوا الحروب دفاعا عن مبادئهم وقضوا في سبيلها، فخلدهم تاريخ أمتهم في أنصع صفحاته . ويستمر تاريخ الأمة العربية في ديمومته ودمويته، ويقف نافضا قلمه من جديد عام 1952، قبل ذلك كان الظلام على صفحاته متراكما؛ فالنكبة تلو النكبة، والعروبة في سبات عميق، والجيوش العربية التي دخلت فلسطين بحجة التحرير عادت منكسة راياتها، صاغرة أمام شعوبها، وقوى الاستعمار ثبتت أقدامها على ثرى أرض العرب، كان ذلك قبل أن تشرق شمس يوم: 23 يوليو 1952 ، الملك فاروق على عرشه جالسا ينتظر تعليماته من لندن؛ فقد قام بواجباته خير قيام، وكذلك باقي زعامات البغاء و الردة و الخيانة، ودولة الكيان المسخ تُشاد على أنقاض شعب هُجِّر من وطنه. كانت الخيول البلقاء تبكي فارسها الذي استبعد تماما، وقناة السويس التي حفرت بدماء الفقراء من أرض الكنانة تعج بمراكب الغرباء، ولا صوت لشعب صنع المعجزات، وبنى الأهرامات. وأغلق التاريخ باب الأمجاد والانتصارات . وفي خضم هذا الظلام المليء بالصمت، صهلت فرس بلقاء، صوتها عربي، وظنوها إنها إحدى الأصوات القادمة من رحم غريب؛ فالأمة صرعى ولا تقوى خيلها على الصهيل، ومع شروق شمس ذلك الفارس الأسمر، فُتِحَ تاريخ الأمة من جديد، يا للسماء! هل بقي فرسان في هذه الأيام بعد كل تلك الهزائم؟ ! نعم لقحت السماء بغضب الأمة ومعاناتها، أربع سنوات والجنين في رحمها ينتظر الخروج، كانت ليلة: 15أيار عام 1948 ليلة زفاف جمعت السماء والغضب العارم من هول النكبة، إذن فهذا الوليد لم يكن لقيطا يا زعامات الردة والخيانة، يا من تنتظرون تعليماتكم من أسيادكم في لندن وباريس وواشنطن، وهذا هو صهيل الخيول البلقاء الذي لا يركبها إلا المعتصم وأحفاده الطاهرون. كانت السماء عذراء قبل عام النكبة، وحملت بزواج طاهر، وجاء الفارس الناصري المنتصر بأمته، وإذ بقلوب الفقراء تخفق من جديد، وترتسم لوحة النشيد المعزوفة من صهيل البلقاء، وصرخة الفارس، وتصفيق الفقراء لرغيف الخبز، وشوقهم للتحرر من عبودية ذلك الباشا وعصاه الغليظة. كان ذلك يوما مشهودا، يوم سقط عرش الخيانة والبغاء، الذي كان يحجب شمس الحرية، ولندن ووعدها المشؤوم بدأ يترنح؛ فمصر أُخيَّة فلسطين الكبرى تفيق من سبات عميق ، وناصر يقف على فرسه متحديا بروح الأمة كل قوى الغزو، واثقةً خطاه، لم يعد الفقراء عبيدا بعد هذا اليوم، يا عمال وفلاحي مصر العظيمة، زمن الاستعباد قد ولى، وعلى الاستعمار أن يحمل عصاه على كتفه ويرحل، فجموع الثائرين صرخت، والبندقية المقاومة انطلقت، بزنود عربية قومية ناصرية. وبعد أربع سنوات على طفولة هذه الثورة، يصرخ الفارس من جديد؛ ليسطر ملحمة أخرى، فالنصر تلو النصر، وبسيف ناصر تسطر الملاحم، وتشمخ الأمة؛ فجول جمال ينتظر الأمر للانقضاض على فريسته التي تمخر مياهنا، وما هي إلا دقائق من عمر التاريخ، حتى تعترف أقوى قوى الاستعمار في العالم بهزيمتها أمام صرخة الفداء والمقاومة، التي زفر بها قلب فارس الأمة الخالد، وهذه المرة أكد ناصر على مبادئه التي أهمها: أن الشعوب إذا هبت ستنتصر. وفهم الصخر والحجر قبل البشر، وبدأت الشعوب تتململ وتفيق على صوت ناصر، فكانت الجزائر مثلاً، ما أن وصلها صوت صهيل الخيل العربية، حتى صفقت الجماهير للنصر، وإذ بالجزائر تعود عربية، وسقطت محاولات الفرنسة الاستعمارية على أرضها، تماما كما انهار عرش الذل والخيانة . وكتب التاريخ عروبة الأرض والفلاح والعامل والانتصارات، ولكنه كان عاجزا عن كتابة ذلك النصر العظيم، فالحدود الاستعمارية بين أقطار الوطن العربي رُسِخَت بفعل أنظمة الردة، وكثرت المؤامرات، ولكن التاريخ ما زال يكتب عن ذلك الفارس الأسمر وقدرته على إزالة الحدود بين مصر العروبة وسوريا الشقيقة . وفي خضم هذه الانتصارات العظيمة التي توجت بالسد العظيم المُشيد بعرق العروبة وأموالها ومقدراتها، فلم يكن استجداء، ولم ندفع ثمنه ركوعا للبنك الدولي، تلك المؤسسة الاستعمارية التي جن جنون مُنشئيها، فناصر لم يركع، ولا يركع، و لن يركع، و بدون أي تردد تتوحد قوى الاستعمار ودوله العظمى على ناصر ومبادئه، وتبدأ المؤامرات من الداخل والخارج، فهناك حلف بغداد والولايات المتحدة بعظمتها وبريطانيا وفرنسا والدول العربية اللقيطة وأخيرا دولة الكيان المسخ، وظنوا بعد النكسة أن ناصر انتهى، وها هو يلفظ أنفاسه الأخيرة عبر تقديمه الاستقالة وتحمله المسؤولية عن الهزيمة . ناصر سيتقدم للمحاكمة، والدموع تنهمر من كل عين عربية، لم يستطع الكبرياء القومي العربي تحمل هول الصدمة، فنحن لم نعد نتقبل الهزيمة، هكذا علمنا ناصر، هكذا رسخ فينا، بالمقاومة وبالتصميم وبالإرادة نصنع النصر . يا أيتها السماء، ماذا عساه أن يفعل، وهل تتركين ابنك يستسلم لقوى الشر؟ أبت الجماهير إلا أن يبقى رمزها شامخا؛ فقالت كلمتها، ورفضت الاستقالة وعاهدته على إزالة آثار العدوان، وها هو يخرج من حزنه من جديد، مصمما معلنا حرب الاستنزاف التي قهرتهم، وامتصت الضربة القاسمة الأولى، ويستمر في نفس النهج لم يحد ولم يتحول، وها هو يصرخ باسم الأمة المقاومة من جديد: لا صلح لا تفاوض لا اعتراف، وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وإنّا لها، وبدأت معركة البناء من جديد، بناء القوات المسلحة والتحضير لإزالة الهزيمة من التاريخ، و يقف ناصر بسده مع الأهرامات شامخا أمام الرياح المسمومة والضغوطات، وتستمر حرب الاستنزاف، والكل العربي منصهرا بطاقة محمومة، تتفجر مقاومة، تربك الغزو وقواه. ومشروع روجزر دفن بالمبادئ التي خطها ناصر، فلا صلح ولا نفاوض ولا اعتراف، وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة . وليت التاريخ توقف هناك، مع آخر طلقة في حرب الاستنزاف، وليت السماء تهاوت على كل الأرض، وليتها كانت القيامة؛ فالفاجعة كانت أكبر من كل هذا، لقد ترجل ناصر، و لم يستطع إكمال مشروعه، رحل ناصر تاركا مسيرة الأمة بلا فارس، وصمتت الخيول البلقاء عن الصهيل، و سقطت المبادئ على أعتاب كامب ديفيد، وكأنها انتحرت حزنا على فارسها، فها هم من بعده يفاوضون، ويعترفون، ويصلحون مع قوى الغزو، وها هي القلاع تتهاوى من جديد . لقد كانت أيام ناصر طفرة سقطت من السماء؛ لتقول للأمة أن النصر حليف المقاوم الذي يصمم ويصنع من إرادته دربا لمسيرته، فمتى ستفيق أمة الأمجاد التليدة؟ ومتى ستصهل الخيل البلقاء من جديد؟ .