فى ظل ظروف عصيبة التى تمر بها مصر، وشد وجذب بين جماعات وأيدولوجيات متباينة، يتحدث الكثيرون عن هوية مصر الإسلامية، ربما لكونها تمثل الملاذ والملجأ، وربما المنقذ من كثير من الانقسامات ذات الأيديولوجيات التي لا يعرف لها كنها. "البديل" التقت مع أحد علماء الأزهر الشريف، لكي يحدثنا عن الهوية المصرية وخصوصيتها بين الأمم، فكان اللقاء بالشيخ أشرف سعد الأزهرى الشافعي - أحد علماء الأزهر، وأمين عام اتحاد علماء الصوفية. الحديث عن الهوية الإسلامية للشعب المصري، يستلزم أن نتحدث عن شخصية الإنسان المصري كمحور للحضارة والتاريخ، هذه حقيقة لا يستطيع أي باحث منصف إنكارها، فمصر أقدم صفحات التاريخ، ومصر بلد انصهرت فيه حضارات وثقافات كثيرة شكلت عقلية ووجدان الإنسان المصري تشكيلا خاصًّا، وقد ارتبط وجود مصر وحضارتها منذ فجر تاريخها بجريان شريان الحياة فيها وهو نهر النيل، ومن ثم نشأ المصري القديم فلاحا زارعا غارسا منتجا بطبعه، وأقام حضارته على ضفاف نهر النيل، وعرف العلوم والصناعات التي تمكنه من حسن تدبير واستغلال هذا النهر العظيم. ولا شك أن ممارسة الزراعة أمر في غاية الصعوبة والمشقة، بما فيها من جهد وتعب ومراحل معقدة يبذلها الفلاح، ثم يجلس ليتوجه بقلبه وفطرته إلى قوة فوق الأسباب وفوق الطبيعة، هذه القوة هي التي تكلل جهده بالنجاح بإنبات ما غرسته يده وإثمار ما طال انتظاره وتعلق به أمله، لم يكن في مقدور الإنسان المصري القديم إلا أن يرى الخالق سبحانه ماثلا في قلبه ووجدانه في كل لحظة يمارس فيها عمله، وفي كل مرة يرى فيها نتاج غرسه، فارتباط المصري القديم بقوة ميتافيزيقية خارقة تتحكم في هذا الكون وتتجاوز قضية الأسباب الظاهرة هو ارتباط ضارب بجذوره في عمق التاريخ، وهذا ما يجعلنا نردد دائما عبارة: "المصري متدين بطبعه"، فهو لا يستطيع العيش بعيدًا عن الإيمان بالإله الواحد الأحد القادر على كل شيء. وقد توالت الديانات الإلهية على قلب وعقل ووجدان الإنسان المصري، فدخلها إبراهيم عليه السلام، وتزوج منها هاجر أم إسماعيل، وعاش بها يوسف عليه السلام، وكان أمينا على خزائن الأرض ونشر بها دعوة التوحيد؛ وعلى أرضها الكريمة أرسل الله موسى عليه السلام بدعوة التوحيد، ورفع الذل والاضطهاد عن بني إسرائيل، وعلى طور سيناء كلم الله موسى تكليما وأظهر الله بها الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة، ومر بها المسيح عليه السلام في رحلته المشهورة، ولما انتشرت المسيحية في ربوع الشرق والغرب في ظلال الدولة الرومانية المسيحية القديمة آمن المصريون بالمسيح عليه السلام، ولم يثنهم الاضطهاد الروماني المذهبي عن التمسك بعقيدتهم التي يرونها حقا، ولم يتخلصوا من هذا الاضطهاد الديني الروماني إلا بدخول الإسلام مصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه، وعلى عادة الفاتحين المسلمين لم يجبروا المصريين ولا غيرهم على ترك ديانتهم والدخول في الإسلام عملا بالآية الكريمة (لا إكراه في الدين)، وإنما تفاعل المصريون مع الإسلام تفاعلا حضاريا، ولم يتعاملوا مع الفاتحين كمستعمرين أو غزاة، وهذا الأمر لم تختص به مصر وحدها، بل هو عام في كل بلد فتحه الإسلام، وفي الفتوح الإسلامية هناك ظاهرة فريدة ليست لغيرها، وهي ظاهرة تستدعي التأمل والتفكر، فهناك حالة من التفاعل الشعبي العجيب في البلدان التي فتحها المسلمون شرقا وغربا لتخليصها من ظلم الحضارات الأرضية التي استعبدتها، هذه الظاهرة تتمثل في أن أبناء هذه البلاد انصهروا انصهارا تاما غريبا مبهرا في دين وحضارة وثقافة هؤلاء الفاتحين حتى صاروا حماة هذا الدين وحملة لوائه وناشري ثقافته ولغته وحضارته، وهذا الأمر لا يتأتى أبدا مع وجود الإكراه على الدخول في الدين، فكراهية الإكراه تحول دون الاندماج والانصهار في ثقافة المستعمر المكرِه، فضلا عن أنها تجعل المكرهين حملة لواء هذه الحضارة، لقد أصبح أبناء هذه الحضارات علماء اللغة والحديث والتفسير والأصول والفقه وكل مفردات الحضارة الإسلامية نبغ فيها هؤلاء بل بزوا العرب وتفوقوا عليهم فحملة السنن وعلماء اللغة والتفسير جلهم من غير العرب، كما هو معلوم. عرف المصري العدالة والمساواة في الإسلام، حينما اقتص الخليفة عمر بن الخطاب من عمرو بن العاص وولده لصالح قبطي مسيحي وقعت عليه مظلمة من ابن عمرو بن العاص. وحينما وقعت مظلمة آل بيت النبوة في العصرين الأموي والعباسي، توالت الهجرات من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أرض الكنانة طلبا للأمان، فأحب المصريون آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم حبا عظيما، وأحبهم آل البيت المطهر فعاشوا بين أهلها، ودفن كثير منهم بأرض مصر، وصار من عادات المصريين زيارة مراقدهم الشريفة بعد وفاتهم حبا لهم وبرًّا لنبيهم صلى الله عليه وسلم. عرفت مصر الفقهاء والمحدثين والعلماء والمفكرين، فبها كان الليث بن سعد، الفقيه المحدث، وعبد الله بن لهيعة، وعبد الله بن صالح المصري، وأحمد بن صالح المصري، وأصبغ بن الفرج، ومنتهى هجرة الشافعي إليها، وبها نشر مذهبه الجديد وفقهه وأصوله، وتوالت النهضات العلمية على مصر، وشكلت مصر عبر تاريخها الإسلامي حجر زاوية لا يستهان به في الحضارة الإسلامية، تبلورت في شتى نواحي الحياة العمرانية والسياسية والعلمية. في منتصف القرن الرابع الهجري (358ه) استطاعت الدولة الإسماعلية الفاطمية بسط نفوذها على مصر وانتزاعها من حضن الخلافة السنية العباسية بعد انهيار الدولة الإخشيدية العباسية بموت كافور الإخشيدي، صبغ الفاطميون الحياة المصرية بشتى أنواع الفنون والعلوم والحضارة، بنوا القاهرة "قاهرة المعز لدين الله الفاطمي"، وجعلوا لها الأبواب العظيمة، بنوا القصور والمدارس وأدخلوا كثيرا من العادات والتقاليد إلى حياة المصريين، بنوا المساجد الفخمة، فعلوا كل شيء في أرض مصر ولم ينفذوا إلى عقل ووجدان الإنسان المصري ليصبغوه بصبغة التشيع الإسماعيلي، على الرغم من الوله الشديد في قلوب المصريين لآل البيت الشريف. وبعد انهيار الدولة الفاطمية وعودة مصر إلى الخلافة العباسية - على أيدي الأيوبيين - وعلى أرض مصر، وبفضل أجنادها خير أجناد الأرض، انهارت أحلام الطامعين من التتر والصليبيين في تقويض دعائم العالم الإسلامي وإنهاء وجوده، من فم مصر كانت تأتي دائما قبلة الحياة لحضارة تكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب. شكَّل الأزهر الشريف معلما هاما من معالم الحضارة المصرية، فقد أعاد فتحه وجدد عمارته الظاهر بيبرس (665ه) بعدما أغلقه صلاح الدين الأيوبي، وحذا حذوه كثير من الأمراء. ومنذ ذلك العهد، ذاع صيت المسجد وأصبح معهدا علميا يؤمه الناس من كل فجّ، ولقي الأزهر من عناية البلاد الشيء الكثير، وزاد في مجده أن غزوات المغول في المشرق قضت على معاهد العلم هناك، وأن الإسلام أصابه في المغرب من التفكك والانحلال ما أدى إلى دمار مدارسه الزاهرة، مما حدا بكثير من العلماء إلى شد رحالهم إلى الأزهر الشريف، لينهلوا من علمه وينعموا بالأمن والأمان والرزق الحسن الذي يأتي من الأوقاف المتنوعة التي أوقفت على الأزهر الشريف، ولعل هذا هو السر في انتشار وصمود المدرسة الأشعرية الصوفية الأزهرية عبر الزمان والمكان، فقد كان جل علماء الأزهر الشريف أشاعرة في المعتقد، صوفية في الدعوة والسلوك إلى الله تعالى، وظل الأزهر الشريف يحتل هذه المكانة وأسهم إسهاما إيجابيا في جميع الأحداث العظمى التي مرت بها مصر، لا سيما في وقت العبور العظيم، وحتى يومنا هذا، واستطاع الأزهر الشريف أن يربط الشعب المصري بربه سبحانه، وأن يوجد حالة من التسامح والتعايش بين المسلمين وغيرهم من أبناء الوطن الواحد. إن نظرة فاحصة إلى هذه الأحداث العظيمة تساعدنا في الوصول إلى قراءة جيدة صادقة لمدى التنوع الحضاري والثقافي الذي اختلط بجينات وخلايا الإنسان المصري، ومدى انحياز الإنسان المصري بطبعه إلى الوسطية والاعتدال في الفكر والعلم وعدم النظر إلى الأمور، خاصة الدينية والفلسفية، نظرة سطحية أحادية جامدة. وقد لمح بعض العلماء المغاربة، وهو السيد عبد الله بن الصديق الغماري، نزيل مصر هذه الصفة العجيبة في المصريين، فذكر في بعض كتبه أن المصريين لديهم قدرة عجيبة على التسامح، فالاختلاف في الأمور الدينية بينهم يبلغ أشده، ثم إذا التقيا تصافحا وتعانقا بكل المودة والرحمة، كأن لم يكن بينهما خلاف قط، بينما عندنا في بلاد المغرب ربما يحدث التكفير والقطيعة عند الخلاف في أتفه الأمور وأبسط المسائل الوسطية منهج تفكير وممارسة، تأتي من رحم التعمق العلمي والحضاري، وتقلب الثقافات والأفكار في عقلية ووعي هذا الإنسان مهما كان بسيطا، وتأتي كذلك من الرغبة في التعايش وتحقيق الأمن والاستقرار للمجتمع الذي يحيا فيه الإنسان المصري. دخلت إلى مصر المعاصرة أفكار كثيرة وافدة شاذة، خرجت من رحم الوهابية النجدية تحصر الدين في آراء وأفكار محددة تتكون من نسق محدد من الفروع الفقهية، وتلبسه ثوب الفكر الاعتقادي، مما سهل وجود العنف اللفظي والفكري متمثلا في ظاهرة التكفير التي انتشرت بين الشباب في هذه الأيام، وتطور الأمر، وانتشر العنف في مصر في مرحلة الثمانينات والتسعينيات متمثلا في بعض الاغتيالات، وحمل السلاح، ومحاولة صبغ الحياة المصرية بنوع معين من التدين لم ولن يألفه المصريون ولو بقوة السلاح، في الحقيقة لم يلق ولن يلق هذا النوع من الفكر، أي تعاطف من جموع المصريين؛ وظل هذا الفكر ظاهرة شاذة تؤكد أن القاعدة العظمى من المصريين تميل إلى التسامح والوسطية. هذا الفكر في حقيقته به من الثقوب والعيوب الكثير، مما جعل المصري الحضاري يلفظه، فهو فكر يعلي من قيمة المظهر الشكلي الخارجي (اللحية، النقاب، الجلباب) على حساب الجوهر الباطني، ولا شك أن هذا يتصادم مع طبيعة المصريين، بل مع حقيقة الدين نفسه، فالدين منهج لإصلاح الباطن الذي يصلح بصلاحه كل شيء في حياة الإنسان.