عفوا.. إنها مصر التي لا تزال تتكتم قبورها على سر لعنة فراعينها.. حتى أصابت العالم بالجنون من أسرار الموت الغامض للعابثين ولو على سبيل الاستكشاف، فما بال القوم وقد استبدت بهم الدهشة من لعنة محرقة أحلام اليقظة وهي تلتهم النزق والعناد مع كنانة الله، فلا بأس من أن تكتمل قراءة ملحمة اللعنات بقافية عصرية ل"الكرسي والسجن".. فلا توريث للنجل والعصابة على ضفاف نيلها الخالد نفع، ولا حلم بتمكين أهل وعشيرة في حضن أهراماتها شفع.. لما لا؟! فهي التي ورثت العالم أقدم حضارة في التاريخ، ومكنتها قوتها وإبداعها من ترويض التاريخ وإخضاعه لحقيقة خلودها وبقائها، صامدة أمام موجات متلاحقة وعاتية من كيد الطامعين والهواة وسماسرة القتل والدماء. إنها اللعنة عندما تتوارثها الأوطان فتحبط المتعالين والمتآمرين، وتثبت أن مصر نموذج لا يقارن أو يقاس عليه حتى لو انعقدت اسباب المقارنة والقياس، وفي ما بين ال 25 من يناير وال30 من يونيو وما يستجد من فصول في فن كتابة التاريخ الإنساني دروس وشواهد لما قد لا يتصوره عقل من معجزات، فيقينا.. شهد العالم الاختصار غير المخل لاحتراق المراحل واحدة تلو الأخرى وتساقط أوراق توت الوكلاء وانفضاح المؤامرات الأميركية والغربية، لكن في مكامن المساحات الزمنية بين هذين التاريخين السر الخفي الذي ترتعش أمامه الأقلام قبل أن تتساقط القلاع، نفسه السر الذي سيرتجف أمامه أي مغامر طائش موتور في محاولة الاقتراب من كرسي الحكم، ففيه لمن لم يفهم نقوش لآلاف السنين من الدفقات الحضارية، والتي تختبر ملكات الجالس وتحدد موقعه ومصيره في ذاكرة ووجدان الشعب، فإما أن تحتضنه بحنو صفحات التاريخ الخالدة ك(عبدالناصر ومحمد علي) أو تطويه صفحة النسيان كحال ما دونهما، ولا منطق بين هذين الاختيارين للحلول الوسط، أو ما يفتح الباب أمام مساحات رمادية للحلول الحاكمة. قد يطول حداد أميركا ووكلائها على آخر معاقل الشرق الأوسط الكبير بعد أن سقط بالضربة القاضية في مصر، وقد تحاول الانتقام وتغيير المشهد وتشويه الهبة الشعبية المصرية وتلوينها باتهامات العسكرة والتحريض بالدماء، لكن يبدو أنها قصدت العنوان الخاطئ لمؤامراتها وألاعيبها المكشوفة، فقد فاتها عن جهل أو تغافل أن المصريين شعبا وجيشا لا يعرفون عالم الحلول الوسط أيضا، ف(أجرومية التغيير) و(الثورة الحقيقية) رممت حصون المحروسة رغم طول انطواء أمام لعبة الخداع الأميركي بمشروعها اليميني فاشي، وخرج شبابها ليزأروا متمردين ساخطين على إعادة استنساخ نظام مبارك بظل ديني في إطار مشروع شرق أوسطي كبير يستلهم النموذج العثماني الأردوغاني قبلة ومآلا، ليغرسه في تربة حضارية لها تركيبتها الانسانية الخاصة، فيها من كل التراب تربة ومن كل الأراضي بذرة، ليكتشف الباغي في نهاية المطاف أنه حرث البحر وبنى أبراجا معلقة في الهواء. انفجر المصريون في ال30 من يونيو بعد أن ضاقت مصر بتبديد حلم العيش والحرية والكرامة الاجتماعية في ال25 من يناير لصالح تمكين مرسي للأهل والعشيرة والأشياع في مشروع وهمي، وتحرش تلك الجمعية الخيرية الإخوانية (الافتراضية) بمؤسسات الدولة، وعبث رجالاتها بالثقافة المصرية وكل أدوات القوة الناعمة، كل ذلك بغرور واستعلاء بقوة وهمية واهية، وباستخدام الدين والشريعة ك(لحاف) لأهدافها و(فزاعة)، والأخطر أن دقات ساعة أدائهم السياسي كانت بتوقيت واشنطن دائما، فغازلوا الأميركي بقطع العلاقات مع العمق التاريخي لمصر في سوريا، وقدموا أوراق اعتمادهم للصهاينة في ذكرى نكسة ال 5 من يونيو تشفيا في دماء المصريين. خرج الشعب المصري بملايين هادرة وكان الجيش المصري عند مستوى المسؤولية التاريخية، فأنفذ إرادة جموع هادرة من المصريين، لتسفر أميركا عن الوجه القبيح الذي يدافع عن آخر رهانات خاسرة بالمنطقة، تهاوت في سوريا وتركيا وها هي تصل في مصر إلى حد الإفلاس، فما كان من آلتها الدعائية الصهيونية إلا أن انطقلت مشوهة حراك المصريين، ودافعة بمصر نحو الهاوية، من أجل مشروع ساقط فاشل ألقت فيه بأوراقها الأخيرة، وكلمة السر في ذلك (انقلاب عسكري) لاستدعاء التدخل الأجنبي من الخارج بدفع ومساعدة من الطرف المحلي الخاسر. لا عجب إذن أن يرد المصريون الصاع صاعين لأميركا، وفي عالم الثأر المصري الصعيدي الأصيل لك أن تفتح سقف التوقعات إلى أعنان السماء، كان فاتحته مليونية حاشدة للدفاع عن الموجة الثانية من ثورتهم، بما اعتمرت به من جحيم سخط وحنق على إدارة أوباما وسفيرته (الحيزبون باترسون)، والحراك الواسع قطع دابر التلويح الأميركي بالمساعدات عبر حملة توقيعات شعبية شبابية تحت مسمى (امنع معونة.. للمشاركة في جمع التوقيعات لرفض المعونة الأميركية المسمومة)، وتلك كانت اللحظة التي انتظرها المرء طويلا وليتها تكتمل، لتحرر الإرادة المصرية للأبد وتعيد المحروسة (هراوة) لأعدائها. القدر المتيقن من الحقيقة أن مصر تعيش الآن لحظة فرز حساسة، قد لا يملك المرء فيها سوى الدعاء بحقن الدماء، لكن جوهر المأساة أن المشروع الذي خر صريعا لا تزال ذيوله تلعب بالنار، محاولة تدمير الأمن القومي المصري وتفكيك الدولة العتيدة وتحويلها إلى ميليشيات متقاتلة ومتناحرة، وهي مسألة في ظني المحدود لن تنجح في كنانة الله بأرضه.