إذا توجب علينا وضع التصورات، وصياغة الرؤى عن مستقبل مصر الثورة، المأمول، وسياستها الخارجية الفاعلة، التي بالضرورة هي انعكاس لسياسة داخلية (يتعين) أن تودع الماضي بكل ما حمل وخلّف، فلنبدأ من الشرق، الجهة التي طالما شكلت عبر التاريخ مصدر الخطر على الأمن القومي المصري، وحيث يتربص الكيان الاستعماري التوسعي على الحدود، فمنذ قيام ثورة يناير وثمة تغيير منتظر في سياسة مصر تجاه فلسطين، والصراع العربي الصهيوني، حيث تعتبر السياسة المصرية تجاه هذا الصراع ترمومترًا لقياس حجم التغير في أجندة السياسة الخارجية، بل في استراتيجيتها. وعلى الرغم من إعلان جماعة "الإخوان المسلمين"، إبان "الفترة الانتقالية" أن موقفها من "إسرائيل" لن يخرج عن إطار الحفاظ على "اتفاقية السلام"، فإن البعض توقع، والبعض الآخر أكد، أنه مع وصول مرشح الجماعة (محمد مرسي) إلى الحكم، سيُفتح الباب أمام إمكانية تغيير السياسة المصرية، بما ينقل مصر من موقف الانحياز للكيان الصهيوني الذي تبنته إدارة مبارك، ومحاصرة المقاومة الفلسطينية والضغط عليها، إلى موقف داعم لحركات المقاومة الفلسطينية، وهو ما قد يشكل اللبنة الأولى في بناء استراتيجي محكم، يحدد مكانة مصر ودورها الجديد في مشروع عربي مقاوم، يُفترض أن يكون أهم إنجازات التغيير الثوري في المنطقة. ومع تولي الرئيس مرسي عاد الأمل في أن تكون قضية فلسطين، كما كانت قبلاً، من أقوى دوافع وعوامل التوجه العربي للسياسة الخارجية المصرية. بيد أن تطور الأحداث كشف عن عدم وجود استراتيجية جديدة كاملة واضحة تتعلق بفلسطين، وبالعلاقات مع الكيان الصهيوني، وبالموقف المصري من الصراع العربي الصهيوني عمومًا، فجاءت أحداث رفح في الخامس من أغسطس 2012، التي أظهرت تداعياتها، ولا تزال، مدى الارتباك المسيطر على صانع القرار، وانعدام الرؤية واستراتيجية التغيير، بداية من فشله في مواجهة الآلة الدعائية الضخمة التي شنت حملة مسعورة ضد الفلسطينيين، والتي يمتلكها رجال النظام القديم، وأصحاب المصالح في عدم تغيير نمط العلاقات مع الكيان الصهيوني، وحتى إعلان القوات المسلحة المصرية عن نتائج العملية العسكرية الواسعة في شبه جزيرة سيناء، عندما أكدت أن هذه العملية لا تعد اختراقًا لاتفاقية السلام مع ذلك الكيان، ولا تزال مصر متمسكة باحترامها "دون المساس بالأمن القومي المصري"! وأن العملية تمت بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي، وهو ما يؤكد عدم تخلي الحكم الجديد عن السلام " كخيار استراتيجي"، الذي تجاهل ما قام به الكيان الصهيوني من خروقات لتلك المعاهدة، ومن مجازر في فلسطين، وأدى إلى اصطفاف النظام المصري السابق مع هذا الكيان في مواجهة الشعب الفلسطيني، وفي تضاد مع مصالح مصر وأمنها القومي، الذي لا يُختلف على أن وجود كيان غير شرعي، لم يتخل عن مشروعه الاستعماري الكبير الذي تدخل مصر في إطاره، على حدود الدولة المصرية، يهدد ذلك الأمن، ويعرضه لمخاطر كبيرة، تهدد بدورها وجود هذه الدولة ورفاهية شعبها. تَمسُك الحكم الجديد بالاستراتيجية ذاتها في التعامل مع الكيان الصهيوني، والحرص على استقرار العلاقات معه، حتى بعد كارثة رفح، والتي بدت الإدارة المصرية وهي تعالج تداعياتها متحالفة مع ذلك الكيان في مواجهة أبناء سيناء على أرض مصر. وأيضًا تعيين تلك الإدارة خامس سفير مصري في "إسرائيل"، الذي هرع إلى القاتل ليشرب معه "نخب السلام"، معربًا عن شعوره بالشرف لكونه ذهب إلى "إسرائيل" برسالة "سلام"! كل هذا يدل على استمرار النهج ذاته في إدارة العلاقات مع الكيان الصهيوني، تذرعًا بأسباب أمنية كان من الممكن أن تشكل حُججًا دامغة لتغيير شكل هذه العلاقات وطبيعتها، وهو ما ينعكس بالطبع على موقف مصر من القضية الفلسطينية، واحتمالية تصدرها الأجندة الخارجية، وفق استراتيجية جديدة تضمن لمصر دور فاعل ورئيسي يُغير موازيين القوى الإقليمية وموضعة أطراف معادلة الصراع العربي الصهيوني برمتها. لكن سلوك الحكم الجديد، وما أعلنه الرئيس مرسي في قمة عدم الانحياز في طهران في 30 أغسطس، وفي خطابه في افتتاح مؤتمر وزراء الخارجية العرب في الخامس من سبتمبر، وفي تصريحاته للصحف بعدها، من أن مصر تدعم القيادة الفلسطينية في سعيها للأمم المتحدة، بما يحمله من دلالات ويستتبعه من نتائج على القضية في مجملها، ومطالبته الولاياتالمتحدة العمل على إقامة حكم ذاتي للشعب الفلسطيني، كما أكد في خطابه في الأممالمتحدة في 26 سبتمبر. بالإضافة إلى التنسيق الأمني بين الإدارة المصرية الحالية والكيان الصهيوني، لا يعني سوى القبول بعملية السلام وفق الشروط الإسرائيلية الأمريكية، والالتزام بالأطر الأمريكية التي وُضعت لمصر، ومُنعت من التحرك خارجها، وهو ما يعني أيضًا عدم وجود تغيير يُخرج السياسة الخارجية من دائرة التبعية إلى رحابة الاستقلال، ويضع قضية فلسطين على رأس أولويات السياسة الخارجية المصرية، والذي تفرضه مقتضيات الأمن القومي المصري، ومصالح الدولة المصرية بالأساس، وليس فحسب مقتضيات الانتماء العربي، والموقف القيمي الذي أعلن الرئيس مرسي الالتزام به، والتحرك على أساسه. إخوان ما قبل الحكم، اعتبروا الكيان الصهيوني عدوًا، وأرض فلسطين، من النهر إلى البحر "أرض وقف إسلامي لا يجوز التفريط أو التنازل عن شبر واحد منها". أما إخوان اليوم، حكام مصر الجدد، فقد طالب الرئيس المنتمي إليهم بحكم ذاتي للفلسطينيين، وتمسك ب "مبادرة السلام العربية"، حلاً للصراع مع الصهاينة، والتزم باتفاقية "السلام"، التي أخرجت مصر من معادلات القوة الإقليمية، ووضعت دورها في الصراع في إطار وظيفي، فاقد التأثير والفعالية، لصالح "إسرائيل". والأكثر ألما وبطشًا بالمشاعر، وإهدارًا للحقوق، مخاطبته سفاحًا على رأس الكيان الصهيوني، بالصديق، والعظيم. لا عجب إذن في موقف القائمين على حكم مصر (الثورة)، من قصف غزة بطائرات العدو اليوم. نريد أن نفهم، أين تقع فلسطين المغتصبة في استراتيجية وأجندة، بل في ضمير حكام مصر الجدد (العرب والمسلمون)؟! وليخبرنا (رئيسنا) المنتخب للمرة الأولى في تاريخنا، عبر خطاب من خطاباته المتدفقة، على أن يكون غير مرتجل، ما هي معايير تحديد القضايا، والحلفاء، والأعداء للدولة المصرية ؟ Comment *