أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمس عن بقاء القوات الأميركية في سوريا ل"أمد قصير"، وذلك في تراجع عن تعهد سابق له ب"سحبها فوراً" مطلع العام الجاري. ويأتي هذا الإعلان بعد ما أسماه ترامب ب"مشاورات مع حلفاء واشنطن" حول الملف السوري في توقيت يشل ذروة تراجع نفوذ واشنطن وحلفائها الميداني على مختلف الجبهات في سوريا طيلة عام من حكم إدارة ترامب، والذي بدأ بانهيار التفاهم الأميركي- الروسي الذي جرت مفاعيله في أواخر عهد إدارة أوباما. فيما ذهب ترامب في أول قراراته الخارجية إلى مطاوعة رؤية البنتاجون المتحفظة بالأساس على التفاهم الأميركي-الروسي، فكانت الغارة الصاروخية الأميركية على مطار الشعيرات إبريل 2017، والتي كانت بعيداً عن تأثيرها العملياتي نقطة مفصلية في إعادة نظر مؤسسات واشنطن –مثل البنتاجون والاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي- لاستراتيجياتها تجاه سوريا والمنطقة بشكل عام بعيداً عن ارتجال إدارة ترامب، التي باتت محور للتوافق بينهم وبين ساكن البيت الأبيض. ويأتي هذا القرار في ضوء متغيرين أميركيين على مستوى الداخل والخارج مرتبطين بهذا القرار، الأول فيما يخص إعادة تكوين الإدارة الأميركية التي تشهد منذ شهورها الأولى عدم استقرار وثبات في اختيار رموزها، والذين تم استبدال آخرهم خلال الاسابيع القليلة الماضية؛ فحل الجمهوري المتطرف جون بولتون كمستشار للأمن القومي بديلاً عن ه.ر ماكمستر، ومايك بومبيو كوزير للخارجية خلفاً لريكس تيلرسون، بالإضافة لعدة تغيرات أخرى في عدد من المناصب الهامة في واشنطن والتي اعتبرها البعض تأتي ضمن موائمة ترامب مع هذه المؤسسات لضمان دعم واستمراريته في منصبه وسط مناخ من التشكيك حوله وحول رموز إدارته التي اختارها ومسألتهم قانونياً في شبهات جنائية يصل بعضها – في حالة مدير حملته الانتخابية كمثال- إلى الخيانة العظمى! المتغير الثاني المرتبط بقرار بقاء القوات الأميركية في سوريا هو ما ألمح إليه وصرح به ترامب مؤخراً حول استشارة "حلفاء واشنطن" وتصريحه على هامش زيارة ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، أن بقاء القوات الأميركية في سوريا مرتبط بدفع المملكة لتكاليف هذا البقاء، في إشارة إلى جوهر سياسات ترامب الخارجية الخاصة بالشرق الأوسط، والتي تقوم على مبدأ "السعودية دولة غنية وسنأخذ جزء من ثروتها"، حسبما صرح في لقائه الأخير مع بن سلمان. هذا المتغير في خلفياته البعيدة عن الإعلام وتصريحات ترامب الفجة، يأتي وفق آلية عمل تنظم الاستراتيجية الأميركية في المنطقة على ضوء وثيقة الدفاع الاستراتيجي التي أصدرها البنتاجون مطلع العام الجاري، والتي في مجملها لا تتماشى مع سياسات ترامب الارتجالية خاصة فيما يتعلق بالملف السوري، فتم تكريس تغليب رؤية البنتاجون فيما يخص هذا الملف بداية من غارة الشعيرات ومروراً بانتهاء التفاهم الروسي الأميركي وأجواء التوتر الميدانية في سوريا بين موسكووواشنطن وأنقرة خاصة بعد معارك عفرين، وذلك ضمن إطار التوافق بين البيت الأبيض والمؤسسات الأميركية، ومن جهة أخرى كحل عملي أفضل من فكرة الوكالة الغير مباشرة للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط عبر حلفاء واشنطن، والذين ما لبثوا بتفعيلها في الأزمة القطرية، والتي حسب وجهة نظر هذه المؤسسات وحسب تجربتها على مدار العام الماضي خلقت فرص لخصوم واشنطن–روسيا والصين- في النفاذ بشكل أكبر للشرق الأوسط ولمنطقة الخليج، ناهيك عن خصوم واشنطن التقليديين في المنطقة، الذين استعادوا زمام المبادرة والردع على أكثر من اتجاه وخاصة الاتجاه السوري، الذي فقدت فيه واشنطن وحلفائها أي نفوذ يمكن أن يؤدي لتغيير حاسم على طاولة مفاوضات الحل النهائي. ويندرج تحت المتغيرين السابقين لسياسات الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه الشرق الأوسط أولويات تندرج تحت مبدأ عدم التدخل المباشر لحل مشاكل حلفائها في المنطقة ولكن إدماجها ضمن استراتيجية عمل موحدة بإدارة أميركية وتنفيذ مشترك، وهذه الأولويات المشتركة يمكن حصرها في: * تحجيم نفوذ إيران بالتعاون مع إسرائيل والسعودية بشكل رئيسي، دون تدخل مباشر قد يؤدي إلى اندلاع حرب تتورط فيها واشنطن مباشرة. * لملمة فوضى الربيع العربي من زاوية توظيف ما نتج عنه سلباً أو إيجاباً وفق بوصلة السياسات الأميركية وليس وفق عشوائية وارتجال حلفاء واشنطن وعلى رأسهم السعودية. * إنهاء فوضى داعش والاستفادة من مرحلة ما بعد القضاء على التنظيم في سوريا والعراق لإبقاء اليد العليا لواشنطن وليس لأي من القوى الإقليمية أو الدولية. في السياق نفسه، ترتبط هذه الإشكالية بمعامل بنيوي إضافي وهو مدى توسع الإدارة الأميركية الجديدة في موازنة التقاطعات بينها وبين روسيا تجاه –على سبيل المثال- القضاء على داعش، وبين سعي موسكو لإعادة تأسيس نفوذ استراتيجي لها في المنطقة. وهو ما يخالف أولويات ورؤى حلفاء واشنطن وعلى رأسهم السعودية وإسرائيل؛ فكل من الدولتين فيما يخص سوريا تريد هدم الدولة السورية وتفكيك بنية الجيش السوري في إطار صراعهما مع إيران، وفيما يخص البرنامج النووي الإيراني يريدان عودة العقوبات وربما إلغاء الاتفاق. وهو ما يترجم أميركياً على التوالي بتمدد وتوسع الجماعات الإرهابية في سوريا والمنطقة بشكل عام، واحتمالية كبيرة لنشوب حرب على أثر إلغاء الاتفاق النووي وعودة البرنامج النووي الإيراني لسابق عهده وتوسعه وعودة العقوبات، ويمتد ذلك إلى إجهاض أي محاولة للتوافق بين موسكووواشنطن وربما يمتد فيما يخص الاتفاق النووي إلى خلافات لا حاجة للإدارة الأميركية لها مع باقي القوى الدولية الضامنة للاتفاق. النقطة السابقة توضح التباين بين توجه ترامب التوافقي حول محاربة داعش وتسوية الأزمة السورية من البوابة الروسية، وتحفظه على دور السعودية وسياساتها المختلفة، وبين انحيازه للمشتركات بين بلاده وبين الرياض وتل أبيب حول إيران ودورها والاتفاق النووي. وهنا تأتي البرجماتية والأولويات لكل من واشنطن وحلفائها في المنطقة في تنحية الخلافات وتأجيلها مع ترامب، والتركيز في الدفع ناحية تحقيق المصلحة المشتركة ضد خصم مشترك هو إيران، سواء عن طريق الاستثمار في إحداث صدع بين طهرانوموسكو فيما يخص تسوية الأزمة السورية، أو تصعيد الخلاف مع طهران حول "الاتفاق النووي السيئ" –بتعبير ترامب- والبرنامج الصاروخي الإيراني وغيره من الملفات والقضايا إلى حد الصدام الوشيك، خاصة وأن جوهر الخلاف بين إدارة أوباما من جهة والرياض وتل أبيب من جهة أخرى أساسه سياسات هذه الإدارة تجاه طهران، وأن جوهر معارضة ترامب وإدارته وحزبه للاتفاق النووي وسياسات سلفه تتوافق مع مصالح كل من السعودية وإسرائيل. وبالنسبة لكل من تل أبيب والرياض، فإن تفعيل هذه الاستراتيجية بداية من القرار الأخير الخاص ببقاء القوات الأميركية في سوريا ورهنه ب"حلفاء واشنطن" يمثل الحل العملي الأمثل في هذه المرحلة؛ فبداية من تحقق موطئ قدم لواشنطن في جغرافيا محور المقاومة يحقق هدف أهم وهو بحسب عسكريين إسرائيليين "يقطع التواصل الجغرافي الممتد من طهران لبيروت دون الحاجة للتمسك بمسألة إسقاط النظام السوري التي فشلوا في تحقيقها وصارت طي الماضي بتصريح وفعل واشنطن وحلفائها. وبالإضافة للسابق، فإن القرار الأميركي ورهن مداه الزمني بحلفاء واشنطن يحمل أهداف عملية متنوعة بين الميدانية والسياسية ضمن استراتيجية تقويض محور المقاومة، والتي تتلاقى مع استراتيجية الدفاع الأميركية الجديدة وتتماس مع كبح طموح موسكو في المنطقة. والأهم أن هذا البقاء الأميركي يؤسس لفاعلية التحالف بين الرياض وتل أبيب بإشراف وغطاء أميركي على مستوى عملياتي عسكري شرعي بعيداً عن دعم وتمويل السعودية لجبهة النُصرة على سبيل المثال واحتمائها في الغطاء الجوي والمدفعي واللوجيستي للجيش الإسرائيلي وخاصة على جبهة الجولان، وأكثر فاعليه أيضاً من عملية عسكرية إسرائيلية في لبنان أو العمق السوري بدعم وغطاء سعودي، وتشكل أساس تحفيزي للتحالف بين الدولتين على أكثر من اتجاه بما فيها العمل الأمني والعسكري المشترك عبر ضمانة أميركية ويحقق الحد الأدنى من أهداف مرحلية على مستوى المستقبل المنظور قد يوازن ما خسرته كل من الثلاث دول في العاميين الأخيرين سواء على الساحة السورية أو في الشرق الأوسط بشكل عام.