لاتزال الإدارة الفرنسية عاجزة عن تحديد سياساتها الخارجية وميولها السياسية بشكل واضح؛ تحاول إمساك العصا من المنتصف في علاقاتها بدول العالم لتخرج بأقل خسائر من الصدامات الدولية، وظهر ذلك جليًا في طريقة تعامل باريس مع حليفتها الأمريكية، وفي الوقت نفسه، محاولاتها التقارب وكسب ود الجمهورية الإيرانية، ففرنسا تارة تصبح المتحدث بلسان أمريكا بشأن الأزمات الإقليمية في الشرق الأوسط، خاصة عندما يتعلق الأمر بإيران وملفها النووي والباليستي، وتارة أخرى تُطلق التصريحات وتتخذ الخطوات الودية الساعية إلى التقارب مع طهران وحشد التأييدات لمواقفها الدولية. لودريان في إيران وصل وزير الخارجية الفرنسي، جان ايف لودريان، إلى العاصمة الإيرانيةطهران، فجر اليوم الاثنين، في زيارة رسمية تستغرق يومًا واحدًا؛ لإجراء محادثات مع المسؤولين الإيرانيين حول سبل تنمية العلاقات الثنائية بين البلدين وتبادل وجهات النظر حول أهم القضايا الإقليمية والدولية، حيث اجتمع صباحًا مع أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، الذي استقبل الضيف الفرنسي مرتديًا الزي العسكري بصفة ادميرال، على عكس العادة التي جرت غالبًا خلال لقاءاته مع المسؤولين الأجانب، حيث كان يرتدي الزي المدني. وأكد وزير الخارجية الفرنسي، خلال لقائه أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، على ضرورة التزام جميع أطراف الاتفاق النووي بالتزاماتها، معلنًا أن بلاده تعارض الموقف الأمريكي حيال الاتفاق، وهو الموقف الذي من شأنه أن يؤدي إلى زعزعة الاتفاق الدولي، وأشاد لودريان بالتعاطي الفاعل للجمهورية الإيرانية حيال الاتفاق النووي والتنفيذ الكامل لبنوده، وأشار إلى الخطوات التي اتخذتها بلاده والبلدان الأوروبية الرامية لتسهيل العلاقات المصرفية مع إيران، موضحًا أن آليات جديدة سيُعلن عنها بهدف إحداث انفراجه جادة في العلاقات بين إيرانوفرنسا. وأعرب الوزير الفرنسي عن ارتياحه لزيارة طهران وإجراء محادثات مع كبار المسؤولين الإيرانيين، وختم قائلًا: إننا نؤمن بأنه في ظل الأجواء التي اعقبت التوصل إلى الاتفاق النووي، فإن آفاق العلاقات السياسية والاقتصادية بين إيرانوفرنسا واعدة للغاية. من جانبه، أكد أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، علي شمخاني، أن قدرات إيران الدفاعية ليست موجهة ضد أي بلد، منتقدًا سياسة أوروبا في تقديم التنازلات لأمريكا من أجل إبقائها في إطار الاتفاق النووي، قائلا، إن منطق أي اتفاق دولي يتمثل في الحفاظ عليه من قبل جميع الأطراف والمجتمع العالمي، ومطالبة أحد الأطراف بالالتزام ولا مبالاة الطرف الآخر بتعهداته، أمر مرفوض، مشددا على ضرورة إسراع الأطراف الأوروبية في التنفيذ التام لالتزاماتها في إطار الاتفاق النووي، مضيفًا أن "سياسة أوروبا في تقديم التنازلات لأمريكا من أجل إبقائها في الاتفاق، غير صحيحة، وهي بمعنى الانهزامية والاستسلام امام لعبة ترامب النفسية". وعقب انتهاء اللقاء الذي انعقد بين شمخاني ولودريان، اجتمع الأخير مع نظيره الإيراني، محمد جواد ظريف، وبحثا العلاقات الثنائية، ومن المفترض أن يُنهي وزير الخارجية الفرنسي زيارته إلى طهران بلقاء رئيس الجمهورية، حسن روحاني، ورئيس مجلس الشورى الإسلامي، علي لاريجاني، والمشاركة في مراسم عرض أثار متحف "اللوفر" في المتحف الوطني الإيراني. أزمة سياسية زيارة وزير الخارجية الفرنسي، تأتي في الوقت الذي ظهرت فيه بوادر أزمة سياسية بين طهرانوباريس، على خلفية المواقف التي اتخذتها الأخيرة ومعاييرها المزدوجة التي تتعامل بها عندما يتعلق الأمر بإيرانوأمريكا، حيث سبق الزيارة بأيام إطلاق لودريان تصريحات ومزاعم أثارت غضب طهران، حينما أعرب في مؤتمر صحفي عقده مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف، في موسكو، عن قلقه من البرنامج الصاروخي الإيراني، قائلًا إن "طموحات إيران الصاروخية الباليستية مُقلقة للغاية وتتنافى مع قرارات الأممالمتحدة"، على حد تعبيره، مضيفًا: "ينبغي اتخاذ إجراءات كي لا يتحول البرنامج الصاروخي الإيراني إلى تهديد للمنطقة"، مؤكدًا حينها أيضًا "التزام بلاده الكامل بالاتفاق النووي". فرنسا لعبت أيضًا، دورًا بارزًا في محاولات أمريكا تمرير مشروع القرار الذي طرحته بريطانيا، وعرض على مجلس الأمن في 27 فبراير الماضي، وحاول تحميل إيران مسؤولية دعم وتسليح حركة أنصار الله التي تشارك إلى جانب الجيش اليمني في صد العدوان السعودي الإماراتي، حيث أرادت بريطانيا أن يشمل مشروع القرار بشأن تمديد العقوبات في اليمن تعبير عن "قلق خاص" من جانب مجلس الأمن، بزعم أن إيران انتهكت حظر الأسلحة المفروض منذ عام 2015، وحصلت تلك الصياغة على تأييد الكويتوفرنسا ودول أوروبية أخرى، إلا أن روسيا استخدمت حق النقض الفيتو، الأمر الذي أبطل المشروع. إيران تستبق الزيارة واستبقت إيران وصول وزير الخارجية الفرنسي إلى طهران، بإطلاق تصريحات مشددة للتأكيد على أن برنامجي طهران النووي والباليستي غير قابلان للنقاش أو لإبداء الرأي، وهو الموقف الذي رأى فيه العديد من المراقبين رسالة حاسمة لجميع دول العالم ولفرنسا على وجه التحديد، التي يزور كبير دبلوماسييها الأراضي الإيرانية، حيث قال كبير المتحدثين باسم القوات المسلحة الإيرانية، العميد مسعود جزائري، إن من واجبات القوات المسلحة ارتقاء القدرات الدفاعية والصاروخية، مؤكدًا إنه "لا يحق لأي من كان التفاوض مع القوى الأجنبية حول قوة إيران الدفاعية والصاروخية". وأوضح العميد جزائري اليوم الاثنين، أن "تعزيز القوة الدفاعية للبلاد سيستمر دون وقفة، ولا يحق للقوى الأجنبية التدخل في هذه الساحة"، مضيفًا: "في هذه الظروف التي تهدد الأنظمة السلطوية وباستمرار الجمهورية الإيرانية، وترتكب المجازر في المنطقة، فإنه من مسؤوليات القوات المسلحة تعزيز قدراتها الدفاعية في كافة المجالات بما فيها منظومات الصواريخ". ومن جانبه، أكد المتحدث الرسمي باسم المنظمة الإيرانية للطاقة الذرية، بهروز كمالوندي، أن إيران لن تتراجع قيد أنملة عن برنامجها الصاروخي، وأضاف: "ما تمتلكه إيران من أجهزة طرد مركزي تعمل أسرع بأربعة وعشرين ضعفًا مقارنة بالأجهزة السابقة، وبإمكان إيران استئناف أنشطتها النووية بوتيرة قياسية في حال خروج واشنطن من الاتفاق النووي أو الإخلال به". وفي السياق، قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، بهرام قاسمي: "إننا سنبلغ الجانب الفرنسي بصراحة أن هواجسهم حول سياسة إيران الإقليمية هي وهم وخطأ، وينبغي البحث عن هواجسهم بخصوص المنطقة في الأطماع والسياسات العدوانية في بعض عواصم دول المنطقة وخارج المنطقة"، مضيفًا أن إيران وقعت على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية(CTBT) ، لكن لم تصادق عليها، لذلك ليس للمعاهدة أي موقع أو أجهزة رقابة ناشطة في إيران، ولا تُرسل أية معلومات عن الجمهورية إلى الأمانة العامة لهذه المعاهدة، والأخيرة ليس لديها أي إشراف داخل إيران، ردًا على مزاعم موقع "المانيتور" حول إصدار تصريح بتصدير أجهزة مراقبة من قبل الحكومة الأمريكية بهدف تشديد الرقابة على تنفيذ الاتفاق النووي والبرنامج النووي الإيراني. بدوره، قال رئيس مركز الأبحاث الاستراتيجية الدفاعية العميد، أحمد وحيدي، أن الفرنسيين لا يملكون حق إبداء الرأي حول القدرات الصاروخية الإيرانية، مضيفا أن عليهم أن يقدموا توضيحات حول الإجراءات العدائية ضد الشعب الإيراني، وأشار إلى زيارة وزير الخارجية الفرنسي وإمكانية طرحه لمسألة القدرات الصاروخية الإيرانية، قائلًا: "نحن نتخذ قراراتنا حول زيارة المسؤولين الأجانب إلى إيران وفقًا لمصالح بلدنا، لكنّ على أي حال فإن ايران لن تسمح لأي بلد بالتدخل في شؤونها الداخلية"، وشدد رئيس مركز الأبحاث الاستراتيجية الدفاعية، على أنه في حال قررت الدول الأوروبية السير على نهج الرئيس الأمريكي العنصري والمتطرف، فهي ترتكب بالتأكيد خطأ استراتيجي كبير. التصريحات المتتالية من مختلف مستويات مسؤولي الجمهورية الإيرانية، قطعت الطريق على الحديث عن مفاوضات حول البرنامج النووي الذي يثير قلق أمريكا، أو نظيره الصاروخي الباليستي الذي يثير قلق فرنسا، فالموقف الإيراني واضح منذ فترة طويلة، وأعاد المسؤولين التأكيد عليه قبل الزيارة الفرنسية بساعات، وبات غير قابل للتفاوض. فرنسا تتراجع يبدو أن فرنسا رغم ازدواجية المعايير التي تتبعها في سياساتها الخارجية، إلا أنها قادرة على استيعاب الرسالة الإيرانية بأن الأخيرة لن تُقدم المزيد من التنازلات للدول الغربية التي تسعى إلى الهيمنة على دول العالم وفرض سيطرتها ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط بالتحديد، كما أن باريس لا تريد تخريب علاقاتها مع طهران التي أصبحت تملك نفوذًا قويًا سياسيًا واقتصاديًا في العالم وخاصة في أوروبا، ما دفع الخارجية الفرنسية إلى تخفيض لهجتها قبل زيارة لودريان بأيام، حيث أصدرت الخارجية الفرنسية بيانًا أمس الأحد، أكدت فيه على ضرورة احترام الاتفاق النووي والالتزام ببنوده، مضيفة أن الهدف من الزيارة تعزيز العلاقات الثنائية بين باريسوطهران، وخلص البيان إلى إن "فرنسا تتطلع لإجراء محادثات مستدامة في مختلف المجالات، بما فيها الثقافية والاجتماعية والعلمية مع الجانب الإيراني". في إطار التمهيد للزيارة وتخفيض اللهجة الفرنسية تجاه إيران، أجرى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، اتصال هاتفي، أمس الأحد، مع نظيره الإيراني، حسن روحاني، وأكد خلاله أنه يرغب في إقامة علاقات واضحة، وثيقة ومستدامة مع إيران، مضيفًا أن باريس تبذل قصاري جهدها للدفاع عن الاتفاق النووي، وأن هذا الموقف يجسّد نهجنا الواضح والصريح. فرنسا وسيطًا يبدو أن فرنسا تحاول الخروج من معركة المواجهات الأمريكيةالإيرانية بأقل خسائر، حيث رأى البعض في زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى إيران في هذا التوقيت، محاولة للتوسط بين إيرانوأمريكا، خاصة أن الأخيرة أمهلت الدول الأوروبية حتى 12 مايو لمعالجة ما أسماه رئيسها دونالد ترامب "الثغرات الرهيبة" في الاتفاق النووي، والذي هدد بالانسحاب منه وإعادة فرض عقوبات على إيران، حيث تريد باريس الحفاظ على الاتفاق النووي الذي بذلت القوى الكبرى جهودًا مضنية استمرت سنوات طويلة لإقراره، وفي الوقت نفسه، لا تريد التخلي عن حليفتها الأمريكية التي تتخذ خطوات متهورة في سياساتها الخارجية، لكن من الواضح أن لودريان سيصطدم بحائط خرساني خلال زيارته لإيران يتمثل في مواقف السياسيين والقادة الإيرانيين من التفاوض مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، الأمر الذي سيحبط الجهود الفرنسية.